aleqt: 18-08-2022 (10538)

12 NO.10538 ، العدد 2022 أغسطس 18 هـ، الموافق 1444 المحرم 20 الخميس الثقافية منذ اللحظة الأولى لإعلان صدور روايـة "حوش عباس"، وهي تثير ردود فعل إيجابية، في وتـ ة لا تتوقف، ربمـا بدافع الفضول لمعرفة مـاذا في داخـل الحوش؟ ومــن عـبـاس؟ في حكايا لا يكاد يتمالك القارئ نفسه من سخونتها. في "حـــوش عــبــاس" أحـــداث درامية متلاحقة، حوارات وقصص دافــئــة، وأخـــرى يكتوي القلب بنيرانها، في قصة متماسكة للروائي جابر محمد مدخلي، يعطي عنوانها قوة جذب وتشويق قد لا تتوافر في عناوين الروايات الأخرى. عائلة دفنت مآسيها بغلاف فريد، وهو لوحة للرسامة نـدى عبدالله، وبلغة ومفردات تـرب بشجاعة لتسجل معاني إنسانية، جاء مدخلي متسلحا برواية جديدة، جـاء في خلفية غلافها، "أنــا الــذي كنت أنعم إلى جوار أمي ليلا ونهارا بالطمأنينة، وأحوز من أبي على الحب، وبعض من قسوته التي أراها اليوم أحب من قسوة غيره علي، أنا الذي سكنت روح أماني، وتغلغلت في عالمها، وحياتها، وغـدوت أثمن أشيائها، وأهـــم اهـتـ مـاتـهـا، ولا طعم لحياة أحدنا دون الآخر، أنا الذي أحبتني أخته لأبيه سالمة، وحاولت إسعادي كلما توافر لها ذلك، أنا الذي ينتظره صديقه صولان على الحدود للعودة إليه، وأنـا الذي كنت سأغدو شيئا ثمينا ومهما لكل هؤلاء، وبين صبح وضحاه فقدت كل ذلك وتحولت إلى نتفة لحم في طريق كلب مسعور في حوش لجي، اسمه حوش عباس". ينطلق بنا جابر مدخليفي روايته من زوجــة يمنية وزوج سعودي وأبنائهما، الـذيـن يعيشون في قرية المجدعة بجانب الحدود، وأجبروا على الانتقال عنها، للابتعاد عـن خطرها وظـروفـهـا المقيتة والمفاجئة، ليتركوا فقرها، ومآسيها الكبيرة، وقصصها المتفحمة، وروائـحـهـا الحجرية، وملابسها الجبلية. تعود أحــداث الـراويـة إلى ما 20 قبل الألفية الجديدة، أكثر من عاما مضت على انتقال العائلة إلى محافظة أبو عريش، مرورا بالخوبة، وجبلا دخان والـدود، أهم جبلين على الحدود السعودية اليمنية وتتمركز فيهما بين حين وآخر قوات سعودية للإشراف على أمن الحدود، لكنهم كانوا كمن فر من الماء إلى بطن الحوت، إذ انتقلوا للعيش عند زوجة أبيهم الأولى وأبنائهم. خيال وتوثيق خيال الـــروائي واســـع، فكيف إذا بخيال جابر مدخلي، صاحب روايتين سابقتين لحوش عباس، هما "مجاعة" و"إثبات عذرية"، الـذي ينسج من مفرداته لوحات تستقر في ذهن القارئ، مثل وصفه حينما كتب "أمي المشرقة قبل بزوغ الشمس بقليل ابتسمت كما لو أنها لوحة يصعب رسمها، شعرها متدل غارق من أثر الاغتسال، ويدها التي رفعت بها غرتها مخضبة بالحناء، ووقفتها الفاتنة، وخصرها الذي زواه العناء". تتكئ الرواية على أساس متين، ففي جنباتها توثيق بشكل غير مباشر لمواقف وأحـداث تاريخية غابرة، مثل سـوق الصميل التي يتجاوز عمر وجودها مئات الأعـوام، تلك السوق التي كانت شاهدا على بقايا آثار حرب الثورة اليمنية، وماتت حولها عشرات الأنفس البريئة، وفي محيطها بقايا بيت أثري من الطين والحجر احترقت فيه عائلة بكاملها، فسموه فيما بعد "بيت الصابرين". إلى عمق اليمن في مغامرات جيلان، شخصية الرواية الرئيسة التي أهداها مدخلي هذا العمل بعبارة "إلى جيلان الذي سويته بيدي..."، مواقف عصية على الحصر، في كل منها مغزى وعبرة. وقد أجاد الروائي حينما عبر عن تساؤلات الطفل جيلان البريئة في "حـوش عباس" في بساطة، هي في حقيقتها وجه آخر للعبقرية، حينما كتب عـن جيلان وهـو في طريق عودته إلى مسقط ذكرياته تساؤلا كـان يمزقه من الداخل، فابن التاسعة كان بطيبة القروي الحزين، غـدا يـقـول، لمــاذا يمر الوقت ثقيلا على الأطفال وهم في طريق عودتهم إلى مساقط رؤوسـهـم؟ لمـاذا ينزعونهم من أماكنهم المقدسة دون استئذانهم أو أخذ آرائهم؟ لماذا يخرجونهم منها ظانين أنهم ما زالوا صغارا، وأن تعلقهم بالأماكن سيزول مع أول لعبة أو حلوى تقدم إليهم فور مغادرتهم منها؟! فالأطفال يتأذون من قــرارات كثيرة يتخذها الكبار بحقهم دون أن يضعوا لمشاعرهم اعتبارا أو اهتماما. جيلان كـان وفيا لجبل الـدود الذي يحفظه كما يحفظ كف يده، يعرف كم صخرة فيه، وعليه نزف دما حتى بلل قمته، غادره مضطرا، وعاد إليه وإلى قرية المجدعة بعد غياب، في اليوم الأول لترسيم الحدود بين المملكة واليمن، عاد ووجـد معالم قريته قد تغيرت، حتى جبل الدود تغير. ويــروي مدخلي بلغته الرشيقة على لسان جيلان ما حدث في تلك العودة، إذ يقول صعدنا الصخور من جهة جديدة لم أكن قد صعدتها من قبل، فلجبل الدود سبع جهات، كل جهة لها رائحة، وصخور، ونباتات مختلفة، ثمة جهات فيه تهبطها الصقور وتبني عليها أعشاشها، وأخرى تسكنفي زواياها النمور العربية، كما أخبرتني أمي، وثالثة يسكنها النحل ليصنع في أمنه واستقراره وعلوه الشاهق أقـــراص عسله، لتتراكم أعوام طويلة إلا من استطاع الوصول إليها، واحتمل قرصات النحل العنيفة في سبيل تذوقها. وفي تلك اللحظات، مشىجيلان إلى عمق اليمن، ووجد هناك وفودا من "الحمير" يركبها الرجال والنساء والأطفال، حيث شعر لوهلة كما لو أنه أمام إحدى معارك العصر الجاهلي، مستعدون للمجازفة دخــولا لــأراضي السعودية، لم يستوعب أيـن ستذهب كل تلك الأعداد وكيف ستتجاوز الحدود، إلا لاحقا.. ذلك اللاحق الذي عرف فيه ما ظل لأعوام طفولته يجهله، وظل الله يخفيه عنه لحين أوانه. في أحواش العالم لم تكن قصة عودة جيلان إلى قريته التي انتزع منها سوى قطرة في بحر الحكاية، فـ "مغامرته" التالية - إن جاز لنا هذا الوصف المخفف - كانت مع العم عباس، كهل أبرص، أخذه إليه أخيه لأبيه، باعه لرجل يتولاه، تحقيقا لوصية أمـه في رؤيـة ضرتها وهـي تموت حزنا وكمدا. في حـوش عباس ذي البوابة الخضاء وسـوره العالي، لا تبدو الأمـور مبشرة، "فما الـذي يجيء من فم التنين غير اللهب؟!"، على حد تعبيره. دون أن نحرق الأحداث المشوقة على قارئ الرواية، يسير بنا جيلان بطل الرواية وشخصيتها الرئيسةفي خفايا ذلك الحوش، وتأكد مع الزمن أنه وغيره من الأحواش تحوي كثيرا من الخفايا والأحداث المربكة. فالأحواش كما بيوتنا وحيواتنا، يرى مدخليفي روايته أنها متشابهة مهما اختلفت لغاتها، وأماكنها، ودياناتها، وفيحوش عباس الأسرار مخيفة ومرعبة. وفي عباس وحوشه، يجب أن تتعامل مع الرحيل على أنه حياة جـديـدة، فمع رحيل آخـريـن قد تعيش أنت، ومع تعاقب الأعوام، تختلف نظرة الإنسان، ففي الحوش ذاته آمن جيلان أنه بالمال وحده يحيا الإنسان. في رواية ممتعة، تدور رحاها صفحة، صـادرة عن دار 377 في تشكيل، مـعـاني حياتية، منها الحقيقة التي يصل لها جيلان، ومفادها أن الحياة تنتهي حيث يلد القهر، وتبدأ من جديد كلما استنسخ المـوتى على قيد الحياة حياتهم الأخــرى من العقاب أو العذاب. رواية لجابر مدخلي تتسم بأحداث ساخنة ومتلاحقة في «حوشعباس» .. الحياة تنتهي حيث يلد القهر تتكئ الرواية على أساس متين ففي جنباتها توثيق لمواقف وأحداث تاريخية غابرة مثل سوق الصميل التي تتجاوز عمرها مئات الأعوام جابر مدخلي من الرياض جهاد أبو هاشم عادة ما اقترنت الحيل ومفردها حيلة في الثقافة الشعبية بدلالة سلبية، فسماع الكلمة يبعث في الذهن معاني "الكذب والنفاق والــخــداع"، فيما يــدل المعنى الأصـــ عـ آلــة تـوفـر الجهد والمـشـاق على الإنـسـان. وكانت العرب قديما تطلق لفظ الحيل على علم الهندسة الميكانيكية، وقد ذكرها الخوارزمي في أصناف العلوم التسعة، الفلسفة والعلم الإلــهــي، والمـنـطـق، والـطـب، والإرثماطيقي "علم الـعـدد"، والـهـنـدسـة، وعـلـم النجوم، والموسيقى، والكيمياء، والحيل. وتتفرع إلى قسمين، "حيل جر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاتـه، وحيل حركات الماء وصنعة الأواني العجيبة، وما يتصل بها من صنعة الآلات المتحركة بذاتها". الحيلة والحيل والتحيل، في "لسان العرب" لابن منظور، كل ذلك من الحذق وجـودة النظر، والـــقـــدرة عــ دقـــة الـتـ ف. ونقرأ في "التعريفات" للشريف الجرجاني بأن "الحيلة اسم من الاحتيال، وهي التي تحول المرء عما يكرهه إلى ما يحبه"، وقيل أيضا إن "الحيلة من التحول، لأن بها يتحول فاعلها من حال إلى حال بنوع تدبير ولطف يحيل به الشيء عـن ظــاهــره". ويفصل الراغب الأصفهاني في أوجهها، فيقول إن "الحيلة ما يتوصل بها إلى حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل في حكمة". الحيل صناعة فقهية أصيلة خـــ ف الـــخـــداع والـتـ عـب والمراوغة والنصب.. التي تحدث باستخدام أساليب ملتوية من تزوير وتدليس وتلفيق وافتراء، يكون إعمال العقل واتباع الحكمة والـحـذاقـة في الـتـدبـ ، سبيلا للخروج من المـأزق أو المشكلة. ويؤكد ابن مسكويه في "الحكمة الـخـالـدة" أن "الحيلة خـ من الشدة، والتأني أفضل من العجلة.. أضعف الحيلة أنفع من أقوى الشدة، وأقل التأني أجدى من أكثر العجلة". حكم الفيلسوف فصلها العالم السياسي أبو بكر الطرطوشي في "سراج الملوك" في شكل وصايا للمراء والسلاطين، بقوله، "فنحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر، فإننا ترغب في الحيلة، ونوصي بها، والاتـسـاع في الحيلة مما تواصى به العقلاء قديما وحديثا، وليسشيء من أمور الدنيا لطالب الرفعة وباغي الوسيلة، ومرتاد أي أمر كان، دق أو جل، خير من الحيلة. وأضعف الحيلة أنفع من كثير الشدة". تـاريـخـيـا، ارتـبـطـت الحيل بالفقه الإســ مــي، وعــ وجه التحديد بـالمـذهـب الحنفي، فهو صاحب الفضل في تأسيس "الحيل الفقهية". وكانت لأتباع هـذا المـذهـب العقلاني بصمة خاصة في المــوضــوع، فمظان مصنفاتهم، في باب الحيل، نوادر فريدة ودرر خلاقة، تبرز نباهة وفطنة وسليقة العقل المسلم. يبقى مؤلف "المخارج في الحيل" لمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، أولها وأشهرها، إذ بابا عن الحيل، في 30 تضمن مختلفضروب الحياة. كان ولع الأحناف بالقياس سببا في إبداعهم وإمتاعهم أيضا، فقد روي عن أبي حنيفة أنه أمر حجامه أن يلقط الشعر الأبيض من رأسه أو لحيته، قال، "إن لقطتها كثرت". قال، "إذن القط السود، حتى تكثر!". ويحكى أن رجلا من أصحاب أبي حنيفة رغبفي الزواج من قـوم، فتحفظوا على الأمر، حتى يسألوا عنه أبا حنفية. فأوصاه الإمام قائلا، "إذا دخلت علي فضع يدك على رأسـك"، ففعل الرجل ذلك. فقال له أبو حنيفة، "تبيعني ما تحت يدك بعشرة آلاف درهم"، قال، "لا والله". عشية جاء القوم يسألون أبا حنيفة عنه، قال لهم، "رأيته اليوم، ومع شيء هو له وملكه، أعطيته فيه عشرة آلاف درهم وما باعني، وهو بعض ما يملكه". فزوجوه وبلغ غرضه. فورة الآداب السلطانية حــضــور الـحـيـلـة في عـالم السياسة أضعاف مضاعفة مما عليه في مجال الفقه، فالتراث العربي زاخر بالمؤلفات عن حيل العربفي السياسة. فقد حكي أن محمد علي "1849-1769" الكبير، باشا مصر أمر بوقف ترجمة كتاب "الأمير" للفيلسوف الإيــطــالي نيكولو ميكافيلي، بعد قراءة فصلين فقط، لأنه "يعرف من الحيل أكثر مما يعرف هذا الأمير الأوروبي". واقعة تعززها روايات تاريخية تفيد بأن الإمـ اطـور فريدريك الثاني لم يجد غضاضة في الـتـوجـه إلى السياسيين العرب لكي يتتلمذ على أيديهم فنون الحيل السياسية. ظهر في مرحلة مبكرة من التاريخ الـعـربي الإسـ مـي فكر سياسيجديد، عرف باسم "الآداب السلطانية"، فالحيلة لدى العرب أساس عملية الحكم والسياسة، ألميقل الشاعر أبو الطيب المتنبي: الرأيقبلشجاعةالشجعان هو أول وهي المحل الثاني وفي باب نصح وإرشاد الحكام نقرأ لدى أبي الحسن علي الماوردي "... ليستعمل الملك مداهنة الأعداء قبل مكاشفتهم، وليجعل محاربتهم آخر مكايده، فإنه ينفق في المكايد من الأمـوال، وينفق في المحاربة من النفوس، ولذلك قيل، أوهن الأعداء كيدا أظفرهم بعداوته". أخيرا، تعززت الخزانة العربية بكتاب قيم، تسرد فصوله قصصا وأحـاديـث عن الحيل والدهاء، وحمل عنوان، "السياسة والحيلة عند الـعـرب، رقـائـق الحلل في دقائق الحيل" للباحث رنيه خوام، ". يذكر 2015" عن دار الساقي أن الكتاب وضـع أواخــر القرن ، أي 14 وبداية القرن الـ 13 الـ قبل نحو قـرن من كتاب الأمـ . إلى عديد 1976 وترجم ابتداء من من اللغات العالمية، فيما ظلت النسخة مخطوطة في المكتبة الوطنية في باريس حتى أواسط العقد الماضي. فضلا عن سرد غريب وعجيب 20 الأقاصيص عن الحيل، في بابا راوحت في موضوعاتها، بين حيل الملوك والسلاطين والوزراء والقضاة والفقهاء والعباد والأمراء والأطــبــاء والـشـعـراء والتجار واللصوص والنساء والحيوانات... يبقى المثير والمهم في المؤلف ذكر صاحبه لقائمة من المنصفات المـفـقـودة والكتب الضائعة، وتقديم شهادات مؤلفين اختفت أسماؤهم، وضاعت آثارهم. قـد لا تكون تلك الحقيقة عجبا، حـ نعلم أن الحيل دائمـة الحضور في حياة العرب حتى تحولت إلى فن يتنافسون في إتـقـانـه، فـهـذا المهلب بن أبي صفرة يـوصي أولاده قائلا، "عليكم مـن الـحـرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة". وقيل لعنترة بن شــداد، "أنـت أشجع الناس وأشـدهـم؟" قــال، "لا". قيل: "فـلـ ذا شـاع لك هــذا؟". قـال، "أقــدم إذا رأيـت الإقـدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما. ولا أدخل موضعا إلا أرى فيه مخرجا". التراث العربي زاخر بالمؤلفات عن حيل العرب فن الحيل .. من صناعة الفقهاء إلى حذاقة الساسة الحيل في حياة العرب تحولت إلى فن يتنافسون في إتقانه فهذا المهلب بن أبي صفرة يوصي أولاده قائلا «عليكم من الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة» الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة. من الرباط محمد طيفوري

RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=