aleqt: 30-06-2022 (10489)

من كان يصدق أن رئيس تحرير مجلة «الفيصل» سيتركها في أوج نجاحها وانتشارها؟ بل قادر أيضا على أن يسجل نجاحا آخرفيعالم الكتاب، معمرا ومثريا للذاكرة الثقافية العربية، حتى أطلق عليه العلامة والأديب عبدالله بن خميس، لقب «أستاذ»، وهو في بداياته الصحافية. إنه الأديب علوي طه الصافي، الذي رحل مودعا الحياة صباح الأحـد في جـدة، عن عمر يناهز عاما من 50 عاما، بعد 80 الـــ العطاء، مسهما في الصحافة الثقافية، تارة كاتبا، وتارة مؤلفا للقصة القصيرة وأدب الرحلات والأطفال. بستاني في حقول الأدب والصحافة علوي هو الغائب اليوم، الحاضر أبدا، الذي جال أقسام الصحافة الثقافية ناثرا إبداعه وسمعته الطيبة، تاركا خلفه إرثا كبيرا وآلافـا من المحبين، والذكريات التي لا تزال في قلب كل من عمل معه عن قرب. كان الصافي كالبستاني الذي قطف من كل بستان زهرة، ففي مسيرته مجموعة من المحطات، فقد التحق بقسم القانون منتسبا في جامعة بــ وت، وحصل على ليسانس الحقوق من بيروت، ثم على دبلوم في التربية من الجزائر، وبالمثل، عمل في أكثر من مجال، حيث عمل إخصائيا اجتماعيا في الضمان الاجتماعي، ورئيس قسم الصحافة العربية في المـديـريـة العامة للصحافة والنشر التابعة لوزارة الإعلام، ورئيس الشعبة الـقـانـونـيـة وتطبيق الأنظمة في المديرية العامة للمطبوعات، وســـكـــرتـــ ا إعـ مـيـا لمحمد عبده يماني وزير الإعلام. خلال مسيرته، كثير من المحطات الصحافية منذ بواكير البدايات، حينما كتب مقاله عن جـــران خليل جــران في صحيفة "الرائد"، ثم كتاباته في صحيفة «قــــريــــش»، ثـــمفي مجلتي «الــجــزيــرة» و«اليمامة» وصحيفتي «البلاد» و«المدينة»، قبل أن يـقـوده حسه الأدبي إلى مجلة «الفيصل»، مؤسسا، وأول رئيس تحرير لها. لم يعرف أمه علويطه الصافيكان أحد رواد الأدب والصحافة في المملكة، في جيزان، في بيت 1944 ولد في متواضع من الحجر، بين سبعة أولاد وبنتين، في قصة رواهـا ولامست قلوب كل من سمعها. لا يعرف أمه، ماتت وهو في عمر عامين، وحـرص والـده على أن يتعلم اللغة الإنجليزية في الابتدائية، ولعدم توافر هذا التعليم في جازان حينها، أرسله والده إلى لبنان عند خاله سالم عبدالرحمن الـزيـن، الــذي كان .1958 يتعالج هناك، في كــان يقرأ الـصـافي في شتى العلوم، وسلاسل أدبية كانت كبيرة على سنه، شغوف بكتب المذكرات وأعمال الكبار، وفي آخر لقاءاته التلفزيونية حين شارف على الثمانين من عمره، قال في برنامج "اللقاء من الصفر" مع الإعلامي مفيد النويصر "أشعر أنني قدمت شيئا، لم أتخل عن مبادئي، وكنت ملتزما مع أسرتي، وزوجــتــي راضــيــة عـنـي، أجـد سعادتي مع عائلتي"، هذا هو الصافي زوجا، الوالد لأربعة أولاد وأربع بنات. أول رئيس تحرير لمجلة «الفيصل» استقال الـصـافي مـن مجلة «الفيصل» متعبا، كـان يشعر بالمسؤولية تجاه مجلته، والأمير خالد الفيصل، لكنه شعر بالتعب فترك المجلة التي رافقته لنحو عاما، كان مؤسسا لها وعرابا 16 لانتشارها الـواسـع ونجاحها، وتركها ليتفرغ للقراءة والكتابة والكتب. كتب الأديـــب الــراحــل برمز "مسمار" مقالات نقدية، ولازمه هــذا الـرمـز حتى في منصات التواصل الاجتماعي، حيث اختاره ليعرف عن نفسه على "تويتر"، "‏مـسـ ر".. عاش بين ا وراق.. ودع القلم بعد أن كان رفيق دربه لنصف قرن.. وآثر الصمت.. فلم يبق إلا صدى كلماته. كان الأديب علوي الصافي يكن حبا لرواية القصة، فألف أكـ من قصة للأطفال، ومن مؤلفات 50 الـراحـل: إسبانية تحسب قلبي بئر بــ ول، كنت.. في الطائرة المخطوفة، امرأة.. تحاور أفعى، لكل مثل قصة، قصص من التراث الـعـربي والإنــســاني، مـن بـادي الوقت.. عائد من أميركا، يا قلب.. لا تحزن، السمكة والبحر.. قضايا وقراءات، والمجموعة القصصية أرزاق يا دنيا أرزاق، وسلسلة من القصص العربية والإسلامية، وكـتـابـه المـفـعـم بـالـذكـريـات "هؤلاء.. مروا على جسر حياتي". ولإبداعه وإسهاماته النيرة، نـال علوي الصافي تكريما في ، حيث 17 مهرجان الجنادرية الــ منح وشــاح الملك عبدالعزيز مـن الـدرجـة الأولى كشخصية المهرجان المكرمة، وحصد قبلها جائزة الدولة التقديريةفي الأدب، ووســـام تكريم وميدالية من مجلس التعاون الخليجي، وأرفع الأوسمة من البحرين، فلسطين، تونس، وفرنسا. ذاكرة ثقافية وصف الناقد الدكتور عبدالله الغذامي صديقه الصافي، بأنه كان يعمر الذاكرة الثقافية عطاء وثراء وسيرة غنية في منتجها وفي أخلاقيات سلوكنا الثقافي، وقال في مقال نشره قبل أعوام "كنت في البعثة في السبعينيات حين ظهر علوي الصافي في صحافتنا، وكان ظهوره مدويا وباهرا بعد عودته من دراسته الحقوقية، مصحوبة برصيد عميق من الثقافة والمهارة الكتابية، مع شجاعة في الفكر والتعبير، وقد عرفت هذا حين عدت من البعثة، وأخذت في متابعة مجلة «الفيصل»، حيث هو أول رئيس تحرير لها، وكانت الثمانينيات تعج ببوادر الحداثة وبوادر الصراعات التي كانت تشق طريقها وتنذر بأنها ستنفجر، وانفجرت فعلا في منتصف العقد الثمانيني، وكان علوي الصافي على درجة عالية من الحرص على جعل مجلته منبا فكريا يتابع الجديد الثقافي، وهـذا ما تحقق عمليا حيث تحولت مجلته إلى وجهة لكل من أراد مقالا جادا فيمادته وراقيا في أخلاقيات الخلاف، وحصلت كتابات معمقة عـن الـحـداثـة، معها وضدها، ولم يظهر علوي موقفا منحازا إلا إلى العمل الجيد، كقانون للنشرفي المجلة". وتـابـع الـغـذامـي في مقاله "زادت معرفتي بـعـلـوي مع تشاركنا في مهرجان المربد في بغداد في الثمانينيات، وعجننا السفر والـتـجـوال في شـارع المتنبي والمستنصرية، نمشي ونتحدث حتى عرف كل واحد منا صاحبه وســره كما يسب السفر الصحبة، وعرفت عمقه الـوجـداني والمـعـرفي وثـراء ذاكرته وقصص الجيل الذي غبت عنه حين بعثتي، ولمس هـذا النقص عندي عما كان يجري بين كواليس الصحافة، فانسابت نفسه بسرد أوراق المرحلة وحكايات الثقافة غير المنشورة، وزاد على هذا أن توطدت المعرفة مع كتبه التي تنوعت فكرا وبحثا وقصصا إبداعية، مع قصص للأطفال، ولقد كتبت عن قصصه وعن تجنيسه الفني والأسـلـوبي، ونشر دراستي كمقدمة لأحد كتبه". كتب لم تطبع 4 كان الأديب علوي الصافي يثير المعارك الأدبية الماتعة، حتى وصفه الدكتور محمد الــعــويــن، الـكـاتـب وعضو مجلس الأمناء في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، بأنه صاحب القلم المشاكس، الذي حرك الساكن وأثار الأسئلة وأدار الصراع بين أدب الشيوخ والشباب وأدب المرأة وغيرها، داعيا إلى جمع ما كتب باسمه والاسمين المستعارين "مسمار" و"ليلى سلمان" والردود عليها، لتبقى تلك المقالات شاهدا حيا على نمو وتطور أدبنا. وأضــــاف الـعـويـن، أن "الــراحــل ذكــر في رسالة خاصة له أنـه أعـد أربعة كتب جاهزة للطبع، إلا أنــه لا يستطيع نشرها عــ حـسـابـه الـخـاص ولم يجد نـاشرا، مهيبا بــالــنــادي الأدبي في الرياض أن يتولى نشرها ونشر مقالاته التي لم يجمعها". تــوفي الــراحــل بعد غــيــاب عــن الصحافة والإعلام، لمرضه وحالته الصحية، تاركا لنا واحة من الأدب في مؤلفاته الــتــي تـحـمـل معاني عميقة، من أب محب وقاص مبدع. 12 NO. 10489 ، العدد 2022 يونيو 30 هـ، الموافق 1443 الخميس غرة ذي الحجة تعد القدرة على الكلام، نطقا وكتابة وإشــــارة، أســاس عملية التواصل، التي مهدت الطريق للإنسانية نحو التقدم والرقي والازدهار فيمدارج التحضر. هكذا أضحى الكلام مقدسا، فلولاها ما سمع الناس متون النصوص الدينية، ولا أقوال الشعراء وحكم الفلاسفة وبلاغة الحكماء.. حتى قيل إن «الكلام تجل، والصمت أفول». لا يتردد أرنست هيمنجواي الأديب الأمريكيفي إبداء تحفظه، فحسب الروائي، «يحتاج الإنسان 50 إلى عامين ليتعلم الكلام، و عاما ليتعلم الصمت». لا يقصد هيمنجواي بالصمت السكوت بمعناه السلبي، أي الجمود المرتبط بالطبيعة والـــــدال عــ المــــوت، بل الصمت باعتباره مشاركة وتفاعلا، وإعلانا عن وجود حياة. يصبح الصمت بذلك عابرا لحدود اللغة، فاسحا المـجـال أمـــام مـزيـد من المعنى. ما دفع الفرنسي مـوريـس ميرلوبونتي، إلى تقديم وجهة نظر حول الصمت، في كتابه «المـــرئي والـ مـرئي»، حـيـث يـعـد الصمت أســـاس كـل اللغات، «صمتي عند الكلام والاستماع ضروري لي كمشارك فعال في حــواري حول العالم». الصمت فن لا يتقنه كثيرون، فمن كــان مبدعا بصمته أصبح مبدعا بكلامه، والجاهل من يعتقد أن الصمت هو عدم المعرفة أو الخوف من المواجهة، بل بالحقيقة أن الصمت هـو أســاس الحكمة والمعرفة. فالأيرلندي بيرنارد شو يرى أن «الصمت خير الفضائل، لأنك بوساطته تستمع للآخرين، فـتـعـرف عيوبهم، وتخفي عيوبك». وتحدث وليام شكسبير، عـن مفارقة الصمت والـكـ م بقوله «هـنـاك كـ م لا يقول شيئا، وهناك صمت يقول كل شيء». وفي الأثر نقرأ أن «عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان». يتحول الصمت أو قلة الكلام عند الصوفية إلى ركن ينبغي أن يلتزم به المريد والسالك، فالصمت وجه من أوجه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير له الوقع الأقوى والأثر الأبلغ من كل أنواع الكلام. ينقل اللغوي عبدالملك أبو منصور الثعالبي، في «اللطائف والظرائف»، من حكم نبي الله لقمان، أن «الصمت حكمة وقليل فاعله»، وقيل أيضا «إن الصمت أنفع للناس، والسكون أنفع للطير، لأن الطير إذا نبش قبض وحبِس». تباين تقدير الحضارات بين احتفاء اليونان بالباعة في الكلام، والقدرة على إنتاج خطاب مقنع ومـؤثـر، حتى شــاع بينهم قول الفيلسوف سقراط "تكلم حتى أراك"، فـالـكـ م هنا مـا يمنح المـــرء حـق الاعـــ اف بالوجود. مقابل تقديس المصريين القدماء للصمت، جعلوا الكلام مــغــامــرة غـــ محسوبة العواقب، وصـار شعارهم "إن كان الكلام من فضة، يبقى السكوت من ذهب". وتجعل الفلسفة البوذية من الصمت رياضة للذهن، ومصفاة للنفس، ونافذة للتأمل. حاول شعراء كثر، من عصور مختلفة، ترجمة حكم الصمت في أبيات شعرية، فقد قال زهير بن أبي سلمى، في ترجمة شعرية لمقولة سقراط، «وكائن ترى من صامت لك معجب / زيادته أو نقصه في التكلم، لسان الفتى نصف ونصف فؤاده / فلم يبق إلا صورة اللحم والـدم». ونقل عن الإمام الشافعي قوله «وجــدت سكوتي متجرا فلزمته / إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر، وما الصمت إلا في الرجال متاجر/ وتاجره يعلو على كل تاجر». وتحدث أبو العتاهية عن بلاغة الصمت، فقال «يخوض أناس في الكلام ليوجزوا / وللصمت في بعض الأحايين أوجز، إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا / فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز». تختلف وظــائــف الـصـمـت، بحسب السياقات، فقد يكون فعل احتجاج، وقد يصبح وسيلة مقاومة، فالأديب غسان كنفاني يعد «الصمت صراخا أكثر عمقا، وأكثر لياقة بكرامة الإنسان». وقد يكون الوسيلة الفعالة للتواصل، كما وصف ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي، فيغزليته «يا جارة الوادي» حين قال «وتعطلت لغة الكلام وخاطبت / عيني في لغة الهوى عيناك». وتكلم معاصره خليل مطران، عن بلاغة الصمت، «بعض السكوت يفوق كل بلاغة / في أنفس الفهمين والأربـــاء، ومن التناهي في الفصاحة تركها / والوقت وقت الخطبة الخرساء». وببساطة قـد يكون الصمت عودة الفرد إلى ذاته، وإمعان النظر في معنى وجــوده، حيث يمارس التأمل والتفكير حتى الحلم، وينتقل بالنفس إلى عوالم الطبيعة والسجية والطمأنينة والـهـدوء والصفاء. مفقودات لا وجود لها في المــدن، التي وصفها ماكس بيكارد، في مؤلفه «عالم الصمت»، بخزانات الضجيج العملاق. فـ«لم تعد هناك وحـدة عالمية للروح والسياسة. لكن توجد وحدة عالمية للضوضاء». يـبـقـى الـــســـؤال: هــل عــودة المـرء إلى نفسه تعني الصمت؟ فالكاتب ألدوس هكلسي يؤكد أن «الصمت ليس فارغا، الصمت مليء بالأجوبة». ما يعدم مع الذات أي فرصة لأن يكون المرء صامتا، حتى إن تحقق الأمر مع الآخرين. قد لا يتكلم الإنسان بصوت عال، لكن في الوقت نفسه يتكلم مع نفسه. «يناقش نفسه داخل رأسه، حتى إن لم يسمعني أحد. يصعب على المرء إيقاف الأصوات التي بداخل رأسه، ما يعني أنه ليسصامتا». حضرالصمتفيفلسفة الألماني مارتن هايدجر، عند تأسيس حواره الوجودي عن حديث الأنـا للذات الصامتة مع الآخر للتعبير عن وجود الأنا الحرة الواعية، فالوعي وليد الصمت والتأمل، والكلام وليد الحرية والقدرة على البوح. عمل ماكس بيكار الطبيب السويسري على الكشف عن مركزية الصمت في الحياة، فـ«عندما يتحدث شخصان إلى بعضهما، فـإن شخصا ثالثا يكون على الدوام حاضرا، الصمت يصغي». عودة الفرد إلى ذاته البلاغة .. بين الصمت والكلام من كان مبدعا بصمته أصبح مبدعا بكلامه والجاهل من يعتقد أن الصمت هو عدم المعرفة أو الخوف من المواجهة .. الصمت هو أساس الحكمة والمعرفة أرنست هيمنجواي: الصمت عابر للغات. من الرباط محمد طيفوري بيكارد: عندما يتحدث شخصان فإن ثالثا يكون على الدوام حاضرا.. الصمت يصغي. الصافي: أشعر أنني قدمت شيئا .. لم أتخل عن مبادئي وكنت ملتزما مع أسرتي صاحب القلم المشاكس الذي حرك الساكن وأثار الأسئلة علوي الصافي يودع المارين على جسر حياته الأديب الراحل علوي الصافي من الرياض جهاد أبو هاشم من مؤلفات الراحل. علوي الصافي أول رئيس تحرير لمجلة «الفيصل». حظي الاهتمام بالنشء بجانب كبير من عمل الأديب الصافي. الثقافية

RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=