aleqt: 23-11-2023 (11000)

9 NO.11000 ، العدد 2023 نوفمبر 23 هـ، الموافق 1445 جمادى الأولى 9 الخميس بعد معاناة مع المرض، رحل الناقد الصادق، الدكتور عالي سرحــان الـقـرشي، الــذي غـادر الحياة ولا تزال كتاباته الصادقة تسير بصدقها زادا في مجاهل الزمن وبين منعرجاته. وكأنما يصف القرشي كتاباته، تحدث عن الكتابة التي تمخر عباب الرتابة، وتستنطق الوجود، وتفر بالإنسان من صقيع الآلة وآلية الحدث إلى رحابة زمنه المخضر بـوجـوده الفاعل في تحركه بماضيه، وتواصله مع ماضيه. الدكتور عالي القرشي الذي عـايـش الـتـحـولات الـكـرى في الحركة النقدية والأدبــيــة في المملكة، يحمل مشروعا نقديا ثريا، ومقالاتفي الشعر والرواية والأدب في مجمله، لا يمل الإنسان قراءتها مرة تلو المرة، لما تحمله من لغة منسابة، تحمل فكرة ومعنى. مواجهة مع الحياة والأحياء الأديب ابن الطائف والمولود هــــــ، يحمل 1371 فيها عـــام بـكـالـوريـوس اللغة العربية والتربية من كلية الشريعة في مكة المكرمة، ودبلوم الإدارة والتخطيط الـ بـوي مـن كلية التربية، والماجستير من كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى، والدكتوراه في البلاغة والنقد من الكلية ذاتها حول أطــروحــة بـعـنـوان (الــصــورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خــزام الأســـدي)، التي اضطر حينها إلى التبؤ من الحداثة ليقنع الجامعة بـالمـيفي مناقشة الرسالة، وذلك في زمن ليس بعيدا عن الفترة التي شهدت حرمان الأديـب سعيد السريحي من الحصول على الدرجة العلمية. للقرشي كتب عديدة في نقد الشعر والرواية واللغة، منها كتابه (تـحـولات الـروايـة في المملكة العربية السعودية) الحاصل على جائزة وزارة الثقافة والإعـ م ، إلى جانب مقالات 2014 للكتاب وآراء نقدية بلغة حية ومترسلة، تنتهج مسار الكتابة الإبداعية، التي وصفها ذات مرة بأنها امتداد للذات، واستشراف للأفق، ولن تكون الكتابة كذلك ما لم تكن قادرة على إيقاد الجذوة المبدعة في الإنسان، واستنهاض طاقاته مع طاقات موروثه الإبداعي، ليلتقي مع وهج الزمن، ويقبض على جذوة الحركة العالمية. عالي القرشي في إحدى أبرز مقالاته يرى الكتابة مواجهة مع الحياة والأحياء، والرغبة العارمة في الإفضاء إلى فضاء النص الذي تحدثه بما يختلج من قلق وتوتر، ولذا تكون الكتابة الناهضة على التخدير والـ د كتابة عقيمة، تلوك حروفها، وتلوك ذات كاتبها على الصفحات لتشيعه جنازة ماتت قبل الموت، ودعت الآخرين إلى رثائها. مشروع نقدي ثري للأديب الدكتور عالي القرشي مشروع نقدي ذو أهمية علمية وإضافة معرفية، يحمل جهدا علميا مثريا، وينطوي على رؤية نقدية عميقة، ويقدم صورة للأجواء التي كانت سائدة في ، وفي 20 الربع الأخير من القرن الـ بدايات الألفية الثالثة في مجالي الأدب والنقد، وطبعت رؤيته ضمن أعماله الكاملة في مجلدات بدعم من نـادي الطائف الأدبي ، حيث يجد المتتبع 2021 عام لمشروعه النقدي انصهار التراث مع الحداثة، وتداخل القارئ مع الناقد، وتجاوز النقد الموضوعي مع حالة التذوق. عن مشروعه النقدي، كتب الدكتور حمد السويلم رئيس نــادي القصيم الأدبي تقديما للأعمال الكاملة الـصـادرة عن دار الانتشار العربي، أكد فيه أن القرشي وجـد في مشروعه النقدي بأن المفتاح الذي يفض إلى أي نجاح في استبطان اللغة يتوقف على المقاربات التأويلية المنضبطة، وفي مقاربته التأويلية لم يبتعد عن اللغة، بل انطلق منها للكشف عن جدلية العلاقة بين الأداة والـرؤيـة، وعن حالة التوتر بين التحجب والانكشاف، وعن التعاقب بين حضور الذات وحـضـور الـعـالم، فالمكونات اللغوية من كلمات وجمل تمثل مرجعيات أساسية في المقاربة التأويلية عند عالي القرشي. وظهرت أمام القرشي، وفقا للدكتور السويلم، إشكالية نقدية تتعلق بالممارسة التطبيقية، خاصة حينما يكون النص من جنس الرواية، حيث إن اختيار أشـكـال اللغة لا يـكـون عـادة بالحرية الـتـي قـد يتصورها البعض، إذ إن الــروائي يختار مادته تبعا للظروف، وعـادة ما تكون تلك الـظـروف محكومة أيديولوجيا واجتماعيا، وبالتالي يعد تأويل تلك النصوص تأويلا للغة المحكومة اجتماعيا، وذلك يعني انهماك المحلل في تأويل عمليات ووظـائـف ومـدلـولات التفاعل اللغوي والاجتماعي. سجال الشاعر مع اللغة الشعرية للأديب الراحل عالي القرشي وقفات مع الشعر، كان يرى أن الشاعر حين ينشئ قصيدته، يروم منها امتدادا لذاته، يحمل تميز شخصيته وتفردها، ويحمل فعلا يلحق بـأعـدائـه الخيبة والخسران، وودادا يصل به إلى شغاف القلوب عند من يأنس بهم، ويتقوى بوصلهم وجوده، ولذا يبذل الشاعر كل غاية ممكنة في سبيل إقامة امتداد فاعل ومؤثر لـلـذات، وعليه تكون القصيدة محصلة لاستنفار قوى وطاقات كامنة تصهرها القدرة الشاعرة، لتعطي وجودها سعة تتجاوز بها الطاقة المحدودة إلى الآفاق التي تبلغها الكلمة حبا واسترضاء، أو بغضا وهجاء. وقــال في مـحـاضرة سابقة له في نــادي الطائف الأدبي، إن الثقافة العربية أدركـت أن الكلمات بالنسبة إلى الشاعر أبية عصية المـراس، قبل أن نتلقف ذلـك عن الفيلسوف الفرنسي جـان بـول سـارتـر "والكلمات للمتحدث خــادمــة طيعة، وللشاعر عصية أبية المـراس لم تستأنس بعد، فهي على حالتها الوحشية، وللكلمات للمتحدث اصـطـ حـات ذات جدوى، وأدوات تبلى قليلا قليلا باستخدامها، ويطرح بها حين لا تعود صالحة للاستعمال، وهي للشاعر أشياء طبيعية تنمو طبيعية في مهدها كالعشب والأشجار". ويظهر هذا بأن الشعر ليس بأفكار جـاهـزة يــأتي الشاعر ويلبسها قوالب التعبير، إذ لو كـان كذلك لسهل الشعر على كـل مـن يجيد الـــوزن ويجمع القافية، لكنه سجال بين الشاعر واللغة الشعرية، وجهد لغوي يجعل الشاعر يبحث عن الكلمات الـتـي تحمل مضامين رؤيته بحثا مضنيا ينبئنا فيه الشاعر عن وقوعه في أسر الخيار بين الكلمات، ذلـك الخيار الذي يجعله يختار كلمة ويجهد في ترويض أخرى، بحثا عن التركيب المتفرد المتميز، على حد وصف القرشيالدقيق لحالة الشاعر مع اختياره الكلمات. منطق النص لا تصنيفه كـــان عـــالي الـقـرشي يرفض تصنيف الأدب، وكتب عن رأيهصراحة في تعقيب على مقال للأديب الراحل عابد خزندار، حمل عنوان (لنخرج من بيروقراطية مصطلح تصنيف الأدب)، ولا يهتم باللافتة الكبيرة التي يدرج تحتها النص الأدبي، كالكلاسيكية والـــرومـــانـــســـيـــة، والواقعية والحداثة ومـا بعد الحداثة، حيث تعطي حكما مسبقا عـ النص الأدبي. يتعامل الـقـرشي مع منطق النصوص، مــشــ ا إلى سـمـة غياب الإنسان مع بعض السمات الأخـرى من سمات أدب ما بعد الحداثة، فنفي وجود هـذا الأدب لا يعني نفي بعض السمات التي عرفت لذلك الأدب، ولا سيما غياب الإنسان، لأن التعلق الإنساني بالكلمة وفراره إلى عـــوالم الإبــــداع لا ينشأ بالضرورة عن علاقة آلية بسيطة، لذلك كان يـرفـض الــراحــل هـذه المصطلحات المحملة بـحـمـولات مذهبية، ولا سيما أن مصطلح "الحداثيين" و"ما بعد الحداثيين" أطلقا على هؤلاء الأدباء بعد أن كتبوا أدبهم وفرغوا منه، وهذا التصنيف أو الـتـوصـيـف أو التنابز بالألقاب لا يختلف عن إصـدار الأحــكــام، بـل من قبيل حيلة العاجز أو نوع من القراءة الخاطئة. كان رافضا لتصنيف الأدب .. وحمل مشروعا نقديا ثريا عالي القرشي .. الناقد الذي واجه الرتابة واستنطق الوجود التعلق الإنساني بالكلمة وفراره إلى عوالم الإبداع لا ينشأ بالضرورة عن علاقة آلية بسيطة لذلك كان يرفض الراحل المصطلحات المحملة بحمولات مذهبية كالحداثة وما بعدها من الرياض جهاد أبو هاشم د. عالي القرشي كتاب تحولات الرواية لعالي القرشي الحائز جائزة وزارة الثقافة والإعلام. كتاب المنتديات الثقافية. يوما بعد آخر، تثبت وسائل التكنولوجيا أنها مصممة على إسقاط المخاوف التي راودت الفيلسوف برتراند راسل حين قـال "إننا أقـل خوفا مما كان عليه أسلافنا، لكننا أشد خشية من الملل"، فأوقات إحساس الإنـــســـان المــعــاصر بالملل باتت في تضاؤل مستمر، مع فورة أدوات الترفيه، فوسائل التواصل الاجتماعي (منشورات، صـور، فيديوهات، ألعاب...) وحدها بحر بلا شطآن، بمقدوره تلبية رغبات مختلف الفئات العمرية، بجميع أنـواع الإثارة والتسلية، لملء أوقات الفراغ دون أي شعور بالملل. يـوشـك المـلـل الـــذي كـان السعي لقتله سببا وراء اكتشاف إسحاق نيوتن قانون الجاذبية عندما شاهد تفاحة تسقط خلال تجواله في أرجاء البيت، تحصنا من الطاعون العظيم في لندن، أن يصبح جــزءا من التاريخ، أو مـجـرد حكاية في مسيرة التطور البشري، بفعل الحصار المتنامي لوسائل التكنولوجيا على الإنسان، إذ بات استدعاء الهواتف النقالة، بين لحظة وأخرى، ممارسة آلية يقدم على المرء دون أدنى تفكير. وذلك ما أكدته نتائج أبحاث في الولايات المتحدة، تفيد بأن الملل يراود في المائة من الأفــراد عند 74 تركهم الهواتففي البيت. كان الملل الذي نوشك على توديعه في الـعـر الـراهـن الإنسان على مر التاريخ، وشغل حيزا مهما من تاريخ البشرية منذ قيامها. فضلا عـن كونه دوما عدوا ينبغي محاربته بكل الوسائل الممكنة، وظل الحال كهذا حتى جــاءت الفتوحات التكنولوجية فنفذت المهمة بسهولة، مع مضاعفات أخطرها تحويل الأشــخــاص، بدعوى محاربة المـلـل، إلى مدمنين للتقنية، فالسعي الدؤوب وراءه يفرض محفزات أقـوى تفض في النهاية، بالنظر إلى طبيعتها السريعة واللحظية، إلى مزيد من الملل، فانقلب الفكاك من الملل مولدا له، كما حذر من ذلك الفيلسوف آرثر شوبنهاور. يـعـد شـوبـنـهـاور الملقب بفيلسوف الملل الأكب، أول من تعاطى مع الموضوع بمنظور مغاير بوصفه من أعظم مآسي البشرية، واهتم بالبحث في الملل الذي يعده لعنة لا يمكن الفكاك منها، فالحياة عنده مثل رقاص ساعة يتأرجح بين الملل والألم، فالرغبة تولد الشعور بالألم نتيجة الفقد والحاجة، لكن الأمـر لا يلبث أن يتحول مملا بعد حـ ، لتظهر رغبة أخرىفي متوالية لا تتوقف، وأن السرديات تتحدث، بحسب بيتر توهي، الأكاديمي في جامعة كالجاري الكندية، عن عناية الرومان بالمسألة، وفق ما جاء في رسالة صخرية، في مدينة بينفينتو - جنوب إيطاليا حاليا - تثني على تانونيوس مارسيلونس الذي خلص شعب المدينة من الملل، بفضل أعماله الصالحة، دون أي تفاصيل أوفى عن هذا الرجل أو تلك الأعمال. رغــم قــدم الملل كسلوك بشري قدامة الوجود الإنساني عـ الأرض، تبقى العناية بدراسة وبحث الظاهرة حديثة جدا، فحضور الملل في النقاش الفلسفي والــتــداول الفكري وحـتـى في الأعــــ ل الأدبـيـة متأخر مقارنة بـعراقة الظاهرة الإنسانية. أما الدراسات العلمية الدقيقة لسلوك الملل، فلا تزال في بواكيرها، فبداياتها تعود إلى مطلع الألفية الثالثة، ولم تنتظم في شكل مؤسساتي ، بتأسيس الجمعية 2021 حتى الدولية لدراسات الملل. ولـد هـذا الاهـتـ م أسئلة عـديـدة حــول المـلـل، دفعت لطرح رؤى مغايرة، فانبى خباء للبحث في فوائد الملل، مدافعين عـن جوهرية هذا السلوكفيحياة الأفراد، فالبشر مدينون لـه بتغيير كثير من نواحي حياتهم، فلو لم يراود الملل الأســ ف لما سعوا إلى إدخال تحسينات على معيشهم، فالتنوع الـذي بـات قاعدة في الحياة المعاصرة في الطعام والفنون والعمران والرياضات... ثمـرة مـن ثمـــاره. هكذا يصير الملل تجربة لا بد من عيشها بدل الهرولة للتخلص منها، حتى إن برتراند راسل يقول إن "من لا يحتملون الملل هم أشخاص قطعوا صلتهم بآلية الطبيعة المتأنية، وستذبل دوافعهم ببطء، كأنها زهور مقطوعة في إناء". تدريجيا، شرعـت الدراسات في تصحيح التصور السائد عن الملل، فتحدثت أكاديمية في جامعة تكساس الأمريكية عن أن "كون الملل تجربة يومية يشير إلى أنه يجب أن يقدم لنا شيئا مفيدا". وذهـب جون إيستوود زميلها في جامعة يورك إلى عد الملل أسـاس الإبـــداع".. عندما تشعر بالملل نكون في حالة غير مريحة ويكون لدينا الدافع إلى البحث عن شيء آخر. وهنا، في هذا الدافع، توجد فرصة حقيقة لاكتشافشيء جديد". عــد كــثــ ون المـلـل إشـــارة طبيعية مفادها أن الوضع في الجسم البشري غير طبيعي، ما يستوجب قسطا من الراحة للعقل الـبـ ي، قصد ترتيب بيته الداخلي. فالعقل البشري، وخلافا لأباطيل التكنولوجيا، لا يمكنه البقاء في حالة استثارة دائمة، فالانتباه المستمر مجهد للدماغ والجسد معا، ما يجعل الاستسلام للمللضرورة طبيعية. فهذا النشاط العقلي ذو النطاق الحر لـه دور كبير في وظيفة الدماغ الصحية، إنه أشبه بشحن البطارية، على غرار ما اكتشفه الإنسان مبكرا في علاقته بالأرض، حيث يعمد من وقت إلى آخر إلى إراحتها حتى تزيد إنتاجيتها. تمكين العقل الـبـ ي من الشرود، يسمح لدماغ بالسباحة في مساحات غير معروفة، فالملل يثير مشاعر الفضول والرغبة، كما أكد ذلك الفيلسوف فريدريك نيتشه في إحدى نصائحه، حين قال: "إن الذي يحصن نفسه تماما ضـد الملل يحصن نفسه ضد نفسه أيضا. إنه لن يشرب أبدا إكسيرا أقوى من نبعه الداخلي الخاص". الأبحاث العلمية الدقيقة حول الملل تعد بالشيء الكثير حول سلوك بشري ظل حتى وقت قريب في حيز الـ مفكر فيه، وهذا تحديدا ما أكده الكاتب الأمريكي جوزيف إبشتاين في مقالة له عن الموضوع، بقوله: "الملل هو، قبل كل شيء، جزء من الوعي. وفيما يتعلق بالوعي، لا يزال لدى أطباء الأعصاب كثير ليطلعونا عليه أكثر مما أخبنا به الشعراء والفلاسفة". حضاريا البشر مدينون له بتغيير كثير من نواحي حياتهم الملل .. إكسير ذات يترنح أمام إغراء الشاشات المحمولة المفكر برتراند راسل: من لا يحتملون الملل هم أشخاص قطعوا صلتهم بآلية الطبيعة المتأنية وستذبل دوافعهم ببطء كأنها زهور مقطوعة في إناء الاستسلام للملل ضرورة طبيعية. من الرباط محمد طيفوري برتراند راسل الثقافية

RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=