aleqt: 28-09-2023 (10944)
12 NO.10944 ، العدد 2023 سبتمبر 28 هـ، الموافق 1445 ربيع الأول 13 الخميس ليس سهلا أن تـكـون مترجما للملوك، ولا يكفي أن يتحدث الإنسان لغة أجنبية ليكون مترجما جيدا، فمهمة الترجمة تقوم على الموهبة، وتنصقل مع طول المران والمـ رسـة، لكن الموقف وهيبة الحاضرين وشخصياتهم تقمع أحيانا قـدرة المترجم على السيطرة على النفس والاحتفاظ بهدوء الأعصاب. بهذه الخلاصة، انتهى الراحل منصور الخريجي، مترجم الملوك 88 الذي غادر الدنيا عن عمر يناهز عاما، مخلفا حزنا واسعا برحيله. ترك الراحل إرثا معرفيا في عدد من المؤلفات، منها ترجمته كتاب «عبر الجزيرة على ظهر جمل» للرحالة الدنماركي باركلي رونكيير، الذي زار ، وروايتا 1912 الجزيرة العربية في «دروس إضافية» و«ساعة الصفر»، وكتاب «كلام جرايد»، وأهم مؤلفاته وأغناها كتاب «ما لم تقله الوظيفة.. صفحات من حياتي»، وهي مذكرات تنطلق من بداياته والفقر المدقع الذي عاشه، آلامه ومشواره المهني، وصـولا إلى عمله مترجما للملوك: فيصل وخـالـد وفـهـد وعبدالله -رحمهم الله جميعا-، ألحقها بجزء ثان بعنوان «من زوايا الذاكرة». عصامية أعجبت الملك سلمان في قــــراءة لـــ «الاقـتـصـاديـة» لمـذكـراتـه الـــصـــادرة بطبعاتها المتعددة، يسجل ناشر الكتاب أن الملك سلمان بن عبدالعزيز، هاتف الخريجي، معلقا، "جلست طوال الليل أقرأ كتابك هذا يا منصور، ولم أنم للحظة واحدة، وذهبت للمكتب دون نـوم، لأني جلست عليه من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة السابعة صباحا، وذهبت للمكتب دون أن أنام"، مبديا إعجابه بما فيه من تجربة وعصامية. مترجم الملوك، الراحل منصور الخريجي، في مذكراته، يسير بقارئه إلى لحظات البدايات، ونشأته في ظروف قاسية، متتبعا خطاه، فهو من الجيل الذي عرف الفقر وشظف العيش والبيوت القديمة التي كانت تضاء بالفوانيس والسرج، والجيل الذي سار فيشوارع ترابية ضيقة غير مضاءة، واقتصر قوته على طعام قلما زاد علىخبز يطرى ببعض الإدام المتواضع، الجيل الذي كان يسعد الفرد منه لو وجد عنده ثوبين، أو لو أن الثوب الوحيد الذي لديه لم يكن أحيانا ممزقا مرقعا. يوثق الخريجي، حياته يتيما في مجتمع قـروي فقير، كان التعليم فيه ترفا، وأغلبية أبناء قريته لم يدرسوا إلى ما هو أعلى من مستوى الابتدائية، حيث كان الأبناء حينها يرسلون إلى العمل في الحقول وهم لا يزالون صغار السن، وكان ترتيبه الرابع بين ولدين وأربع بنات، شهد مواقف عصيبة، منها وفــاة أخته فاطمة، وهي طفلة، بين منزل يضم عائلة لم تلتئم جراحها من اليتم. لم يكن الخريجي، يعرف شيئا عن المملكة قبل عودته إليها، كان يعرف فقط أن والــده أتى من القصيم، وأول ما يستذكره من حياته ما عاشه في بلدة "القريتين" في سورية، ثم انتقاله عبر رحلة شاقة ومرهقة عبر صحراء المملكة إلى حي المحمودية في المدينة المنورة (أحـد الأحياء الـقـديمـة الـــذي أزيـــل لاحـقـا) في الأربعينيات الميلادية. شهادتان وعلم غزير حصل منصور الخريجي على الشهادة الابتدائية مرتين، مرة من سورية ومرة من المدرسة الناصرية في المملكة، ودرس إلى أن حصل على ،1952 شهادة تسمى "الثقافة" عام وهي شهادة تكون قبل إتمام الثانوية بعام واحد، وكانت آخر شهادة يمكن للطالب الحصول عليها في المدينة المنورة قبل إتمام الثانوية، لينتقل بعدها إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، التي تشرف على مكة المكرمة والمسعى، ويعيش الطلاب الوافدون من مختلف مناطق المملكة في دار خصصتها الدولة لهذا الغرض. التحق بالدراسة في 1954 وفي مـ ، ودرس في جامعة القاهرة اللغة الإنجليزية، ثم عمل في وزارة المعارف بعد التخرج مفتشا للغة الإنجليزية في المدارس المتوسطة والثانوية، لقلة الخريجين آنذاك، ثم انتقل بعدها إلىجامعة الملكسعود معيدا في قسم اللغة الإنجليزية، وفي نهاية العام كان قد حصل على قبول من جامعة ليدز في المملكة المتحدة لإكـ ل الـدراسـات العليا (دبلوم دراسـة لما بعد الجامعة) .1960 عام وبعد ثلاثة أعـــوام، سافر إلى الــولايــات المتحدة لنيل درجتي الماجستير والـدكـتـوراه، فحصد الأولى من جامعة نبراسكا، لكن لم يكمل الثانية من جامعة نيو مكسيكو، وعاد إلى جامعة الملك سعود دون الحصول على الدكتوراه، رغم أنه قطع أكثر من منتصف الطريق، بعد أن أخفق في اجتياز الاختبار الشامل، رغم ما يكتنزه من معرفة وعلم غزير. المرة الأولى مع الفيصل كيف عمل منصور الخريجي مترجما للملوك؟ المصادفة وحدها هي من قادته إلى هذا المكان، فالراحل كتب في صفحة 368 سيرته المكتوبة عبر أن المترجم الخاص للملك فيصل، الراحل عبدالعزيز الماجد، قد مرض، فرشحه وزير المعارف آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ، لتولي مهمة الترجمة في الديوان الملكي -بشكل مؤقت- إلى أن يشفى الماجد. يذكر الراحل منصور بن محمد الخريجي المرة الأولى التي ترجم فيها للملك فيصل -رحمه الله-، كان الكل يشجعه ويشد من أزره، في مسألة لا تحتاج إلا إلى شيء من الإقـدام وتمالك النفس والثقة بها أمام الملك، وكانت المناسبة تقديم أوراق اعتماد سفير جديد، ترجم كلمة السفير، ثم ترجم جواب الملك عليه، وكان يقوم بذلك وهو شبه غائب عن الوعي، على حد تعبيره، في موقف رهيب، فلم يسبق أن وقف إلىجانب ملكفي غرفة واحدة، وأي ملك، إنه الملك فيصل نفسه، ومن حوله كبار رجال ديوانه. ويسجل الخريجي، أن الدقائق الأولى كانت عسيرة، لأنها الأولى في حياته كمترجم، وما بقي بعدها كان سهلا، إذ استطاع أن يسيطر على انفعاله، وانتهت المقابلة ليخرج ليتلقى تهاني الحاضرين، وكانت بشرى بأنه لا داعي للسفر إلى الخارج لنيل درجة الدكتوراه، ولا سيما أن الديوان كان يريده مترجما للملك، وهو ما كان. مع الملوك عن صفات الملك فيصل، يروي الخريجي في كتابه الممتع "ما لم تقله الوظيفة.. صفحات من حياتي" أنه لم يكن في أي وقت من حياته من الذين يتكلمون كثيرا، إلا أنه في أواخر حياته أصبح قليل الكلام جدا، وعندما يسافر في رحلاته الخارجية يتخذ مقعده في أول كـرسيفي طائرته، ويجلس هكذا لساعات طويلة دون أن يتفوه بكلمة واحدة. ويـروى عنه أنه كان يجلس على المائدة مع موظفيه يأكل قليلا، ثم يسرد بعض الحكايات والوقائع التي مرت به أو سمع عنها، كان يقصها بصوت هادئ وقور تميز به، وتحمل بعضها مرحا لدرجة أن الجالسينعلى المائدة ينفجرون ضحكا بأصوات عالية لم يكن يستطيعون كتمها. أما الملك خالد، فقد كانت طيبته لا حد لها، وكان يعد نفسه أبا، ليس فقط لمن يعملون معه، بل للجميع. والملك فهد فيصفه "الإنسان الذي لا تفارق الابتسامة والسماحة وجـهـه، ليس فقط نحو ضيوفه الكبار، بل مع كل الذين يعملون معه وتحت مظلته، صاحب القلب الرحيم الذي لا يعرف عن ضائقة ألمت بأحد أو مكروه أصـاب قوما، سـواء في مملكته أو خارجها، إلا سـارع إلى التفريج عن المبتلين". ويعرف أن الملك فهد ما احتد على إنسان، أو وبـخ موظفا ممن يعملون في كنفه على تقصير أو غلط ما، إلا وسارع في أقرب فرصة إلى إبداء رضاه عنه بكلمات رقيقة أو مداعبة خفيفة تثلج صدره وتسري عنه. وكـــان آخــر عهد الخريجي في ، منهيا مسيرته المهنية 2005 بالتقاعد، بعد أن كان نائبا لرئيس المراسم الملكية. «تكشيرة» المترجم يبدو دائمــا "مـكـ ا"، هكذا يوصف الخريجي، إلا أنه يعترف في مذكراته بأن "التكشيرة" هي نتاج المتطلبات الثلاثة التي لا غنى للعامل في المراسم الملكية عن استيفائها: التحفظ، التيقظ، والتأهب، وليس هذه المتطلبات مجرد حيلة، بل هي جزء لا يتجزأ من حياة مسؤول المراسم، لا تنفصل عنه، ولا ينفصل عنها، لا في نهار ولا في ليل. العمل مع الملوك والحكام شرف كبير لا يناله إلا السعداء، كما يراه الخريجي، الذي رحل تاركا خلفه عمقا في التجربة، ونصائح لكل مترجم موهوب، يختمها مطمئنا: ما أكثر الغلطات والهفوات التي يرتكبها المترجمون، لكن الملوك يقابلونها بالصفح والتسامح. قرأ الملك سلمان مذكراته في ليلة واحدة منصور الخريجي مودعا: ليسسهلا أن تكون مترجما للملوك الخريجي مرافقا للملك فيصل في إحدى زياراته الخارجية. من الرياض جهاد أبو هاشم الخريجي: «التكشيرة» هي نتاج المتطلبات الثلاثة التي لا غنى للعامل في المراسم الملكية عن استيفائها: التحفظ والتيقظ والتأهب الراحل منصور الخريجي يقال إن الكتابة والجاسوسية وجهان لعملة واحــدة، فالقواسم المشتركة بين الأديـب والجاسوس عديدة، رغم ما قد يبدو لكثيرين من بون شاسع بين الحرفتين في بادئ الأمر. فكلتاهما تقوم على التدقيق في تفاصيل قد تبدو للآخرين بلا أهمية تذكر، فالإحاطة والإلمـام بالبيئة المحيطة (عالم الرواية أو عالم الجاسوسية) مسألة ضرورة. فضلا عن اشتراكهما معا، أي الكاتب والجاسوس، في الأدوات والوسائل المستخدمة، وكذا في تقمص وظيفة النقل للغير، فكلاهما عين تسرد بحذاقة للآخرين ما تراه على أرض الواقع. أفـلـحـت ثـلـة مــن الأســــ ء في الانتقال من عالم الجاسوسية إلى رحاب الإبداع الأدبي، مستثمرين في ذلـك ما تراكم لديهم من خبرات ومعارف في التجسس، شكلت في مجملها "مادة خام"، نسجت وفقها حبكات أعمالهم الروائية والقصصية. وبـــرع آخـــرون في المــزاوجــة بين الحرفتين معا، في الوقت نفسه، فكان بعضهم جواسيس بـدوام يومي في أجهزة استخباراتية نشروا رواياتهم بأسماء مستعارة، فيما كتب أدبـاء تقارير استخباراتية عن دول لمصلحة دولهم، مستغلين صفاتهم كأدباء ومؤلفين. تصنف الجاسوسية ثاني أقدم مهنة في التاريخ البشري. وحضر التجسس كممارسة لدى الإغريق، مثلما عـــ ت عــن ذلـــك الإلــيــاذة والأوديـــســـة. كـل ذلــك لم يشفع للجاسوسية أن تصنع لنفسها صنفا أدبيا مستقلا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، رغــم دخولها مبكرا عـوالم الأدب، فـرأي يربطها بقضية الضابط الفرنسي دريفوس ، ويعد آخرون 19 أواخـر القرن الـــ أن الأمـــر أقــدم مـن ذلــك بكثير، ،16 فالبداية كانت، أواخر القرن الـ مع الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو، الذي اقتحم بلاطات الدول الأوروبية بصفته الأدبية ليكون عين الملكة اليزابيث، المعزولة داخل أوروبا الكاثوليكية بسبب المذهب البروتستانتي، ضد مؤامرات القوى الخارجية. حتى بعد حصوله على الاعتراف، يتحفظ تيار من النقاد، ولا سيما الاتجاه الحديث، على وصف "أدب الجواسيس"، ويميزونه عن أدب الجريمة أو "الـروايـة البوليسية". وسندهم في ذلك أن من يكتب في هـذا المجال يفتقد ملكة الخيال والإبداع، فالمادة الخام التي يوظفها في أعمالها عادة ما تكون مستوردة، أي مـن صنع أجـهـزة المخابرات، وليست مطلقا من بنات أفكاره، كون هؤلاء يعتمدونفيجل أعمالهم على وقائع وحقائق بأبعاد توثيقية، تقلل من القيمة الفنية للمنتج الأدبي رواية كانت أو قصة. الاختلاف بشأن نشأة هذا الأدب يقابله إجماع على احتكار البريطانيين له ردحا من الزمن، ما يعزز فرضية ولادته على يدي الأديب كريستوفر 29( مارلو، الذي قتل في سن مبكرة عـامـا)، وفي ظــروف غامضة رجح مؤرخون أن تكون بسبب إحاطته علما بقضايا وأسرار شخصيات نافذة في البلاط الملكي في لندن. وشاعت في أوساط أدباء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ظاهرة الحياة المزدوجة، فالأدب البريطاني حافل بأسماء مبدعين عاشوا حياة جمعت في انسجام وتناغم بـ الأدب والجاسوسية. يعد جون لو كاريه، المتربع على عرش أدب الجاسوسية، واحدا من هؤلاء، فقد استطاع ديفيد كورنويل، الاسم الحقيقي للكاتب، أن يكتب روايــتــه الأولى "دعـــوة المــوتى" )، ويـصـنـع بـطـل أعـ لـه 1961( "جـورج سمايلي"، حين كان عميلا في الأجهزة الاستخبارية البريطانية. ونجح في نسج خيوط تجربته الرواية بواقعية أكبر، فشخصياته كائنات بشرية عادية تصيب وتخطئ عكس الغرائبية التي سادتفي أعمال كثيرة. )1965( " لا تزال روايته "حرب المرايا أقــدر الأعــ ل على تقريب عوالم الاستخبارات إلى القراء. ويبقى الكاتب إفان فلمنج، صاحب شعار "إياك وقول لا للمغامرة، بل قل لها نعم دائما، وإلا فإنك ستعيش حياة كئيبة ومملة للغاية"، أحد أشهر ، فمبتكر 20 هذه الأسماء في القرن الـ شخصية الجاسوس البريطاني الشهير 12 جميس بوند، بطل رواياته الـ ، كـان عميلا 1965 و 1953 ما بين للمخابرات البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، ما لبثت أن استثمر مغامراته هناك في نسح خيوط أعماله الأدبية. وكانتشهرة جراهام جرين الأدبية سببا وراء اختياره جاسوسا للمخابرات الحربية البريطانية، اعتمادا على توصية أخته التي كانت تعمل لدى الجهاز نفسه حينها. فالمهنة جعلت الرجل في مأمن من أي شكوك في أسفاره التي يبحث فيها عن حكايات لرواياته، بينما الحقيقة أنه بصدد جمع معلومات استخباراتية في رحلاته إلى ليبيريا والمكسيك وهايتي وكوبا وفيتنام... وإن كانت لها ثمار أدبـيـة أيضا مـن قبيل: "الأمـريـ )، و"رجلنا في هافانا" 1955( " الهادئ ). وكانت زيارته إلى سيراليون 1958( سببا لإنهاء ازدواجية أعماله، حين وقف على خيانة التاج البريطاني من صديقه ورئيس الوحدة التي يعمل معها، الــذي كــان عميلا مزدوجا لبريطانيا والاتــحــاد السوفياتي، فاستقال خشية الشهادة ضده في المحكمة، فضلا عن توثيق ذلك للقراء .)1985( " في رواية "الرجل الثالث كلما اشتد الــ اع في العالم انتعش أدب الجاسوسية، فمسرح الأحداث العالمي تربة خصبة لوقائع من شأنها أن تشكل حبكات أعمال روائية. بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار الحرب الباردة توارى هذا النمط الإبداعي إلى الــوراء، ثم ما لبث أن انبعث من 11 مـن جـديـد بعد أحـــداث ، وحـرب العراق في 2001 سبتمبر . وكان ذلك على يدي الروائي 2003 الأمريكي أولن ستاينهاور، الذي ترك الرواية التاريخية لمصلحة الرواية الجاسوسية، ويعد حاليا واحدا من أبرز أسمائها بلا منازع. ما لا يستطيع الكاتب قوله لولا الرواية قصة أدب ينتعش زمن الأزمات الرواد الأوائل نجحوا في تطوير الجاسوسية من مجرد قصص للتسلية والترفيه إلى أدب بحمولة سياسية وإنسانية الجاسوس الروائي جون لو كاريه. من الرباط محمد طيفوري الاختلاف بشأن نشأة هذا الأدب يقابله إجماع على احتكار البريطانيين له ردحا من الزمن. الثقافية
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=