aleqt: 16-03-2023 (10748)
يمـر كـل روائي بغصة تسمى "حبسة الكتابة"، يشعر أنه يختنق بالكلمات، وفي عبارة أخرى، شبح ثقيل يمنعه عن الكتابة، حالة مريعة من عدم وجود أفكار تثير قريحة القلم، لتشكل أزمة وحالة من العجز المؤقت. كيف نتخلص من الحبسة؟ وما أعراضها؟ هذه التساؤلات وأخرى أعــادت طرحها الـروايـة "حقيقة قوس قـزح"، للروائي السعودي علوان السهيمي، التي تطلعنا على حياة الروائي، ومعاناته مع الأفكار، والدهشة التي يبحث عنها في نهايتها، مع مساحة يفردها بنكهة أدب الرسائل، وهنا تكمن متعة الرواية. حبسة الكتابة يوصلنا عــلــوان إلى لحظة الانـهـزام الـكـرى، حينما يعجز الكاتب عـن إنـجـاب أفـكـار حية تستحق الكتابة، وينقل عن بطل الرواية ياسر شعوره بالعجز، فجأة لم يعد قادرا على كتابة حرف واحد رغم أنه كتب روايتين من قبل، يبدو اليوم كرجل تراكمت عليه ديون ولم يعد بوسعه سدادها، إنه شيء أشبه بالحلم الذي تكون فيه عاجزا عن فعل أي شيء مهما بدا سهلا أمامك. عصر بطل روايتنا مخه كثيرا منتظرا أن تهبط عليه فكرة من السماء تستحق الخلود، وقدم له صديقه شقة خاصة في بناية للعائلات، دون أن يدفع فيها قرشا واحــدا، شريطة أن يكتب روايته الجديدة هناك بكل هدوء وسكينة، بعد أن أصابته "حبسة الكتابة"، الحالة النفسية التي تقف بالكاتب مكتوف الأيدي، ويمر بها كل الكتاب والشعراء، ويحكى أن الفرزدق كان إذا صعب عليه الشعر ركب ناقته وطـاف بها منفردا بين الشعاب والجبال، حتى ينقاد له الشعر. كيف يحيا الروائي؟ تتقاطع الحقيقة والكذب في روايـــة "حقيقة قوس قـزح"، وتضعنا في أجواء حـيـاة الـــــروائي، يمضي باحثا عن خاتمة مناسبة لفصول روايته، ويشبع قليلا من الفضول الذي يغلف حياة الروائيين، فها هي جارته تقول في إحــدى رسائلها "السرية" للروائي: في المــجــمــل ما قرأته كان جميلا، جميل لأنه صور لي حياة الكتاب، وأجـــــــاب عـن أسئلة فضولية دائمـا ما كنت أطرحها بيني وبـ نفسي عن يوميات الكتاب، وكيف يقضون حياتهم بعيدا عن الكتابة". يخشى الروائي على نفسه من النسيان، وبقدرة سردية مذهلة يخوض بنا علوان السهيمي إلى دهاليز هـذا الـعـالم، ورحلة البحث الشاقة عن فكرة لا تموت يخلدها بروايته، لكن، أهذه هي حياة الروائيين في حقيقتها؟ لا يمكن الجزم بذلك. قناعات الكاتب الحكاية رغم بساطتها، تدور في نـص متماسك، ولغتها تصل إلى الـقـارئ بسهولة، خالية من التعقيد والألفاظ الكبيرة، كتبها السهيمي في خط تصاعدي من التشويق. عـن حبسة الكتابة يقول الكاتب الـروائي الأمريكي بن ماركوس، "تحدث حينما تكون الكتابة واجبا لا رغبة.. هناك كثير من الأشياء لم تقرأ بما يكفي، لذلك لا أحـــاول حل هـذا الصمت"، وفي رواي ـة السهيمي، نقف على تفاصيل تلك الأزمـــة، نقلا عن روائي يعيشفي تبوك. كما يتصدى علوان السهيمي لفكرة أن الكتابة محصورة بـأنـاس معينين، ويـقـول في روايته، "أتصور بأن كل إنسان هو كاتب بطريقة ما، فالكتابة لا تعني أن تمسك قلما وتخط به على الورق، إنما الكتابة هي أن تترك أثرا في نفوس الناس". فلسفة للحياة تقف بنا الراوية، الصادرة 282 عن دار ميلاد وتقع في صفحة، على العلاقة بين الرجل والمرأة، إذ يرد على لسان نجمها الرئيس بأن كل رجل خلق لامرأة معينة، وكل امرأة خلقت لرجل معين، ومن الصعب القفز على الطبيعة وحتمية الأشياء. نص روايــة "حقيقة قوس قـــزح" كـتـب بمـشـاعـر محب لـلـحـيـاة، يـــدور في فلسفة الحياة والمشاعر من منظور الكاتب، مثل قوله "ليس هناك لحظة مناسبة في التعامل مع عواطفنا، إنما ينبغي أن نبادر لقول ما في دواخلنا تجاه من نحبهم، لأن الحياة غير عادلة، وغير متوقعة أيضا". فيالسياق ذاته، يقدمعلوان السهيمي وصفة صادقة للحياة، يدعونا إلى أن نتذكر مواقف النبل حينما نمر بتجارب قاسية، ودون قائلا إن كنا نعتقد بأن الحياة بيضاء في كل جوانبها، فنحن ننسى الشيطان، النار، الطغاة، القتلة، المجرمين، وأولئك الأشخاص الذين لديهم نزعة من الغرور، وإن كنا نفترض أنها سوداء على الدوام، فنحن بكل تأكيد لا نلقي بالا للجنة، والأخـيـار، الأنبياء، المحبين، الفنانين، الموسيقى، الأزهار، الفتيات الجميلات، والإنسان الحر والصادق، إنها الحياة، خليط من كلشيء. زمن الرسائل تعيدنا روايـة "حقيقة قوس قـــزح" إلى زمــن قـديـم كانت الرسائل غير الإلكترونية هي وسيلة التواصل بين الأصدقاء، فضلا عن المحبين، وفيها بوح عـن مكنونات الـصـدر، تتجلى في الرواية برسائل متبادلة بين روائي وجارته الحسناء، ياسر وزهراء، تعيدنا إلى فكرة رسائل غـادة السمان وغسان كنفاني، أو رسـائـل مـي زيـــادة وج ـران خليل جبان التي جسدت علاقة عاما دون أن يلتقيا 20 استمرت ولو لمرة واحدة. لكن الطريق لا يبدو مفروشا بـالـورود، ففي الـروايـة استمرأ نجمها ياسر الكذب، وبات يكتب رسائله إلى جارته بكذبة تلو الأخـــرى، دون أن يشعر بوخز الضمير، في أسلوب شائق يدعوك إلى متابعة الـقـراءة، حيث إن بطل الرواية الدكتور ياسر، وهو عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات، يتظاهر بأنه شخص آخر، يجد نفسه يختار الكذب في كل مرة يجيب عن تساؤلات جارته المتعلقة بحياته الشخصية، فهو المـتـزوج ووالــد لطفلين، فيما يقدم نفسه لجارته عـ أنه أعـزب، يعمل معلما للصبيان، فهل يقع متلبسا بكذبته؟ يشبع الفضول في صنف أدبي فـريـد، روايـة عـلـوان السهيمي في حقيقتها روايتان، ففي الكتاب - وبطريقة تشبع فضول القارئ - يورد الرواية الأصـلـيـة بمـا تحمله مـن معان ورسائل متبادلة وقصة رئيسة، وكذلك يرفق مسودة الرواية التي كان يكتبها البطل - الدكتور ياسر النبهاني - أثناء إقامته في الشقة التي قدمها له صديقه أمجد، وهي رواية "الحاضنة" التي كان يتشاركها مع جارته الممرضة زهراء، إذ كان يمرر فصولها واحدا تلو الآخر لها، ويتبادلان الرسائل الورقية. لعلوان السهيمي أربع روايات سابقة ومجموعة قصصية بعنوان "قبلة وأشياء أخـرى"، إذ صدرت ،2007 أولى رواياته "الـدود" في تـ هـا روايـــة "الأرض لا تحابي أحدا"، ثم "القار"، و"حياة بنصف وجه". 12 NO.10748 ، العدد 2023 مارس 16 هـ، الموافق 1444 شعبان 24 الخميس كوكب 3 /4 يغطي المـــاء الأرض، ويعد المكون الرئيس لأجسادنا، إذ يتكون مما تصل في المائة من الماء 70 نسبته إلى في المائة 60 عند الولادة، ونحو في مرحلة البلوغ. أكثر من نصف هذا الماء يوجد داخل الخلايا، بينما يدور الباقي في الدم ليغمر الخلايا والأنسجة. تحتوي العظام 75 في المائة، ونحو 22 مثلا على في المائة من الدماغ ماء، ويبقى الدم السائل الأكثر حيوية لأنه في 90 يتشكل بنسبة أكـ من المائة من الماء. تفيد هذه الأرقــام في فهم استحالة عيش الإنـسـان أياما معدودات دون ماء، مقابل قدرته يوما متواصلة بلا 40 على العيش طعام، اعتمادا على ما يحتويه الجسم من دهون. تفسير ذلك ببساطة هـو أن قلة المــاء في الجسم يعني انخفاض حجم الــدم، ما يحفز منطقة "تحت المهاد" في الدماغ على إطلاق إشارات تفيد الإحساس بالعطش، قبل بلوغ درجة الإصابة بالجفاف في المائة 4 التي تتحقق بفقدان 15 من الماء، فيما تفضي خسارة في المائة منه إلى موت الإنسان. الاعتماد الحاسم على الماء لاستمرار جميع مظاهر الحياة على كوكب الأرض، جعل تلقي الـشـعـوب والأمـــــم، عــ مر التاريخ، لهذه المـادة الحيوية، محاطا بهالة من القداسة والرمزية في الـوعـي الـجـ عـي، امتزج في تشكيلها المعطى الديني بالعقلاني والطبيعي بالأسطوري. فتنوعت التمثلات وتعددت، في مختلف الـحـضـارات، باختلاف منظور أصحابها إلى أساس الحياة ومورد الخصوبة وأصل الكون. من يقينيات التاريخ أن الماء كـــان أهـــم فــاعــل في تشكل الـحـضـارات الإنسانية، فعلى ضـفـاف الأنــهــار نـشـأت أولى المستوطنات البشرية، لدرجة أن مؤرخين عدوا أن أعرق الحضارات في الـعـالم كـانـت "حـضـارات الأنهار". بدءا من حضارة دجلة والفرات، أي ما بين النهرين، التي وصفت بأنها "مبتدأ الحضارة الإنسانية". ثم حضارات نهر النيل المتعددة، من جنوبه إلى شماله. وفي الهند، أسست حضارة عريقة على ضفاف نهر الغانج، وكانت بواكير الحضارة الصينية على النهر الأصفر. وانتشرت أقدم الحضاراتفي إفريقيا علىضفاف نهر الكونغو، وكذلك كان الأمر عـ ضفاف المسيسيبي مهد حضارات القارة الأمريكية. وحـر المــاء بثقل كبير في مختلف الديانات، وصلت قيمته أحيانا درجة التقديس، لا لذاته وصفاته الحيوية فقط، وإنما لما يحمله من دلالات ما ورائية. فهو بالنسبة إلى "اليهود والنصارى والمسلمين" أصل الوجود وأساس النقاء، فطقوس الطهارة بالماء بمنزلة تنقية وتطهير للمؤمن في الحياة وعند المـوت "غسل الجنازة". وحدث أن تحول - في المعتقد اليهودي - أداة للموت والعقاب بالنسبة إلى المذنبين (الطوفان)، ما يجعله لدى أتباع الديانة الموسوية متقلبا، بينحال وآخر، حتى بات الماء لديهم رمز التناقضات. بعيدا عن قدسية الماء لذاته، اعتبارا لوظيفته الأساسية في الحياة، يمكن لعوامل بشرية خارجية مثل القراءة على الماء أو النفخ فيه أو غير ذلـك، ما يضفي على الماء آفاق روحانية أوسع بكثير من حدوده الطبيعية والفيزيائية. تصبح هذه المادة الـحـيـويـة في مخيلة الأتـبـاع والمريدين، بفضل تلك العملية، محلولا للتداوي ووسيلة للعلاج والاستشفاء. وقد يكتسب الماء تلك القوة، في بعض الأحيان، استنادا إلى عوامل جغرافيا، كما هــــو الـــــحـــــال مثلا مع مياه "المنابع الصحية" و"العيون الاستشفائية" وكذا "الآبار العلاجية"... يـحـر المـــاء في الثقافة الشعبية، بــ ديــات خاصة وغرائبية، تتشابه وتختلف حسب العوامل المـفـرزة لها. فنزول المطر مثلا يرتبط بممارسات فـولـكـلـوريـة، تتعلق بفعل الاستسقاء، بتسميات عديدة من قبيل، طقس "أم الغيث" فيدول عربية، أو "روب توغ" في شرق إفريقيا، ويعرففي شمال إفريقيا باسم "تاغنجا"، ولدى الليبيين "أم قطمبو"، وفي موريتانيا "احتفال السحاب"... المـــــاء رفــيــق الإنـــســـان في الأفــــراح والأحـــزان، فطقوس الــزواج في المناطق الأمازيغية في المغرب مثلا، مشهورة بيوم الساقية "إس ن تـاركـا"، وفيه يتوجب رش الـعـروس بمــاء الـعـ أو الاستحمام في النهر. وتدريجيا، شــاع هــذا الطقس الاحتفالي الممهد لمراسيم الزفاف في باقي مناطق البلاد، فأطلق عليه اسم "يـوم اغــ اف المــاء" أو "يوم الارتـــواء". ومن طقوس الموت لـدى اليهود المغاربة، سكب جميع الأواني التي تحتوي على الماء في البيت، وبيوت الجيران الأقربين، حتى يعوض بماء آخر عذب، لكون المعتقد اليهودي يقول إن ملك المـوت عزرائيل سيغسل فـيـه سيفه إذا تم الاحتفاظ به. يعد يوم عاشوراء في مناطق سـوس مناسبة طقوسية، يشكل الماء أساس الاحتفال بها، فالاعتقاد بما ورائيات الماء في هذا اليوم كثيرة، تحدث العلامة المختار السوسي عن بعضها فقط، حين كتب عن كيفية إحياء سكان بلدته لهذا اليوم قائلا، "واعتاد سكان إيليغ أن يبخروا منازلهن صبيحة يوم عاشوراء... كما يتم استقاء الماء من الآبار ظنا أنها تستمد مـاءهـا مـن بـر زمــزم في ذلك الوقت، فيرش بذلك الماء جميع زوايا الدار". ما أكثر المعتقدات التي تقدس المـــاء في ثقافات الشعوب، وتحيط منابعه بأسرار وأساطير تبلورها في طقوس، تضفي على الماء طابعا رمزيا متميزا. فهذه المادة كان دوما، وقبل كلشيء، مرادفا للحياة في نظر الإنسان. فضلا عن امتلاكه، بحسب خباء في جامعة هارفارد، قدرة "المذيب العالمي" الذي يستطيع إذابة أي شيء تقريبا، ما يجعل قوته لا تقدر بثمن. ويبقى من المـواد النادرة في الطبيعة التي توجد في الحالات الفيزيائية الثلاث (السائلة والصلبة والغازية) في تكيف فريد مع نطاق درجـات حرارة الأرض. اعتبارا لهذه الأهمية، في الماضي والحاضر والمستقبل، آذار 22 حددت الأمم المتحدة (مارس) يوما عالميا للمياه، لنشر الـوعـي بهذه المـــادة الحيوية الـتـي أضـحـت الــيــوم موضع تهديد، بفعل استنزاف والتبذير المـتـواصـلـ ، بعدما فقدت جانبا من الهالة والطقوسية التي حظيت بها في حضارات وشعوب غابرة. ويتوقع أن تكون سببا للصراع مستقبلا، فأول ما تبحث عنه الدول المستكشفة للفضاء هو الكواكب التي تحتوي على المياه. رفيق الإنسان في الأفراح والأحزان الماء.. أهم فاعل في تشكل الحضارات الإنسانية من الرباط محمد طيفوري مارس يوما 22 حددت الأمم المتحدة عالميا للمياه لنشر الوعي بهذه المادة الحيوية التي أضحت اليوم موضع تهديد بفعل الاستنزاف روايتان في كتاب واحد «حقيقة قوسقزح».. الروائي في لحظة الانهزام الكبرى من الرياض جهاد أبو هاشم تعيدنا رواية «حقيقة قوس قزح» إلى زمن قديم كانت الرسائل غير الإلكترونية هي وسيلة التواصل بين الأصدقاء فضلا عن المحبين علوان السهيمي «ليست هناك لحظة مناسبة في التعامل مع عواطفنا». الثقافية
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=