aleqt: 10-6-2021 (10104)

14 NO. 10104 ، العدد 2021 يونيو 10 هـ، الموافق 1442 شوال 29 الخميس بـات الخلط بين النقد الفني والــرأي الشخصي سمة متجذرة لدى بعض الإعلاميين والمتابعين للفنون عـى اتـسـاع مفهومها، ولا سيما الـدرامـا والموسيقى والسينما، وحـول المعايير التي تندرج تحت اسم النقد، وتلك التي تخضع لذائقة شخصية، وبـدورهـا تسلط "الاقتصادية" الـضـوء عـى بعض المفاهيم والمـعـايـ الـتـي صممها نقاد وأكاديميون حـول النقد الفني ومدارسه. سيطرة الرأي المسبق الجدل القائم حول أغنية ما مثلا والــرأي الفني الـذي تشكل إزاءها، أصبح بالإمكان أن نطلق عليه "حالة" تمكن دراستها، ومن خلالها تشخيص ملامح من النقد الفني، فقد يشعر المتلقي أو الجمهور بأن هناك رأيا مسبقا قد تكون لدى صاحبه تجاه الفنان، اكتسبه منذ أعوام ويمشي عل خطاه، وكان ذلك جليا من خلال الآراء الصحافية السابقة التي تكون حـول فنان بـذاتـه، ولم تتطرق إلى معايير فنية معروفة، إنمـــا قـسـمـت الأصـــــوات بين تصنيفين لا ثالث لهما، جميلة وأخـرى قبيحة، أو التي تحترم ذائقة الناس وضدها، وآراء مثيرة للجدل مثل نعت فنانة أو فنان ما بأنه لا يستحق لقبه الفني، أو وصفه بتقديم الأغـاني السيئة كعادته، وغيرها من الصفات التي قد تصل إلى حد الرمي بالاتهامات والتشويه، وربما تنتهي في أروقة السلك القضائي. وكان جوليوس بورتنوي الناقد الأمريكي تناول هـذه الظاهرة من ظواهر النقد الفني في كتابه "الفيلسوف وفن الموسيقى"، حينما قـال "إن هناك نوعا من الناس يؤكد أنه لا يملك أي فلسفة له في الحياة أو في الموسيقى، فمثلا يعلق عـى أداء ممتاز لمقطوعة موسيقية بقوله إنه يحبها ولكن لا يهمه أن يعرف السبب، إنمـا يعبر عن فلسفة بدائية للموسيقى بلا أي استيعاب عقلي، وهو نوع بدائي إلى أقصى حد، ينطوي عل الحط من قدرات الإنـسـان العقلية عـى التأمل الباطني والتفكير الناضج". وفي السياق ذاته لكن بمنحى آخــر، تعج صفحات التواصل الاجــتــ عــي بمحللي الأفـــ م والمسلسلات العربية والعالمية، إلا أن هــذه الصفحات ملأى بالنقاد الذين يستند بعضهم إلى آراء غير علمية في نقدهم، تحكمهم الأهواء الذاتية، وتؤثر فيهم أحيانا المجاملات الأدبية بـ الفنان والناقد والعلاقة الشخصية بـ الـطـرفـ ، أو الصورة النمطية التي انطبعت في أذهانهم حول حياة الفنان وأخباره الصحافية، فيفقد الناقد حينها استقلاليته العلمية، ولـطـالمـا سيطر بعض هـؤلاء المـدونـ بأحكامهم النقدية عل آراء الأغلبية، مستفيدين ممن ينقلون تدويناتهم النقدية القصيرة من صفحة إلى أخرى، وعن حسن نية أو سوئها، يتكون إثرها رأي عام لدى شريحة كبيرة من الجمهور بناء عل انطباعات خاطئة ترسخت لديهم، حتى قبل أن يشاهدوا العمل الأصلي، ويسبروا أغــواره بعين فاحصة متعمقة ومتذوقة. ولعل ذلك تماما ما حدث مع الراحل نجيب محفوظ، أديب طعنه 1995 نوبل، ففي عـام شــاب في عنقه، بعد أن قرر اغتياله بمساعدة صديقه، بسبب روايـة "أولاد حارتنا"، والمثير للاستغراب والدهشة أن المتهمين لم يقرأ أي منهما لمحفوظ حرفا واحدا، بل إن أحدهما كان أميا، واعتمدا عل اللغط الحاصل إزاء الرواية، فأعدما في نهاية المطاف. يكشف مواطن القبح والجمال يحمل الناقد الفني عل عاتقه تشكيل ثقافة المجتمع، وتنمية وعيه الفني، كاشفا عن مواطن القبح والجمال، يرتكز عل قاعدة فنية في آرائـه النقدية، ويشير إلى مكمن الخلل والخطأ، تاركا للجمهور الاستنتاجات وتكوين الرأي الفني. ففي النقد الفني للدراما والمــرح مثلا، تجتمع عناصر الأداء، وشكل الممثل وشخصيته ومـــدى إقـنـاعـه للمشاهد في تقمصه للشخصية، والأسلوب الأدائي وحركة الجسد التعبيرية، وابتعاده عن الإلقاء والمبالغة، وهو فن يحتاج الإلمام بعناصره إلى ثقافة واسعة بصرية وعملية، يخرج كثمرة للذوق والتجربة الشخصية، ويتعرض لسمات محددة أو عناصر في الممثل أو العمل الفني. فـجـسـده وصــوتــه وحركته لها دور في الحكم عل مهارة الممثل، فهناك الممثل القادر عل إيصال الفكرة دون أن ينطق بكلمة، لكن أجـــزاءه بحركاتها الجمالية كفيلة بإيصال الهدف المنشود، والإفراط فيها يضعف الأداء، مثلما يرى الأستاذ مصطفى داخـــل الـشـحـ ني، في كتابه "الإعلام الفني". ويقول الكاتب "إنـه لا يصح أن يخضع الإعلام الفني لأهواء تلقائية تعكس مجرد أمزجة كاتبيها، أو لأغـراض غير نظيفة تشوبها الشبهات، أو عملية خفية هدفها التكتيكي صياغة ملونة أو مشوهة أو تابعة لا استقامة فيها ولا استقلال، وهنا لا بد من وجود المصداقية والشفافية والتذوق الفني الإنساني. تحت ضوء هادئ يعتمد النقد الفني الحديث عل التحليل المنهجي للأعمال الفنية، فهو كما يصفه الدكتور نبيل راغــب في كتابه الممتع "النقد الفني" لا يجنح إلى المدح أو الـــذم والـهـجـاء، بـل يضع هذه الأعـ ل تحت ضوء هادئ وفاحص بعيدا عن الحماس أو التعصب أو التحيز، كما أن النقد لا يصدر حكما فاصلا لا يقبل النقضعل العمل الفني، بقدر ما يمنح الفرصة للمتلقي أو المتذوق لكي يصدر مثل هـذا الحكم، ويشارك الناقد في مهمته المثيرة للفكر والوجدان. يطول الحديث عـن معايير النقد الفني وعـنـاصره، ولكل فن من فنون السينما والمسح والشعر والموسيقى وغيرها من الفنون مــدارس كلاسيكية وأخـرى حديثة، تناولتها مئات الكتب والمراجع العلمية، دون أن تفصل في حديثها عن الشروط الواجب توافرها في الناقد. فمن تلك الشروط أن يمارس قدرته العقلية وإدراكه للتنسيق الـجـ لي، ولماحيته في إلقاء الأضواء الموضوعية عل محاسن ومساوئ العمل، وتحليه بالثقافة الموسوعية والبصيرة النافذة والحس المرهف والوعي العميق، كما يتحتم عل الناقد أن يلغي كل معلوماته عن الحياة الشخصية للفنان، حتى يستطيع الحكم الموضوعي عل العمل الفني. فيما يميل نقاد مثل الأمريكي روبـــرت روزنـبـلـوم والفرنسي رينيه ريكارد إلى اعتقادهم أن الكاتب يفترض أن يكتب عن حب للعمل الفني، أي ألا يكتب عن الأعـ ل التي لا تعجبه، بل عن تلك الأعــ ل التي يفضلها عن غيرها، وهذا في اعتقادهم الدور الرئيس للناقد المتحمس للفن، ومن واجبه أن يشعل الحماسفي الفنانين الذين ألهموه بأعمالهم الفنية التي قدمت تجربة جديدة تستحق التقدير أو الكتابة عنها. نقاد يغلبون أهواءهم الذاتية وانطباعاتهم البحتة الصحافة الفنية .. تقديم الرأي الشخصي في ثوب النقد يحمل الناقد الفني على عاتقه تشكيل ثقافة المجتمع وتنمية وعيه الفني كاشفا عن مواطن القبح والجمال الصفحات ملأى بالنقاد الذين يستند بعضهم إلى آراء غير علمية في نقدهم. «النقد الفني» لا يجنح إلى المدح أو الذم والهجاء، بل يضع هذه الأعمال تحت ضوء هادئ وفاحص. من الرياض جهاد أبو هاشم غادرنا قبل أيام هشام جعيط المفكر والمؤرخ التونسي، الذي نجح في أن يجعل من التاريخ مادة فكرية جدلية، وليس مادة إخبارية مملة، وكأنه عل منهج ابن خلدون في عد "ظاهر التاريخ لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق". واختار التاريخ اختصاصا، حين كان طالبا في خمسينيات القرن المـاضيفي بــاريــس، وهــو المـفـتـون أكثر بحقول معرفية أخـــرى، مثل الفلسفة والأدب واللغة، لكونه "يعد التاريخ البحر الذي تصب فيه كل الأنهار". وقرر مزاحمة الغربيين في التاريخ الإسلامي حــ رآه مـــادة اختطفوها، وقولوها ما ليس فيها. انطلقت مسيرة الراحل عام بإصداره كتاب "الشخصية 1974 العربية والمصير الإسلامي"، المترجم إلى الفرنسية بعد عشرة أعوام، وتوقفت مع آخر أعماله ، الـذي حمل عنوان 2021 عام "التفكير في التاريخ - التفكير في الدين". وبينهما عناوين متعددة، تشكل في مجموعها حلقات مشروع متكامل، لا يمكن فصل حلقاته التي يتمم بعضها بعضا، حيث يدور نسقها العام حول إشكالية الهوية التاريخية للأمة العربية الإسلامية. كانت أعمال الراحل محل جدل كتاب تلو الآخر، فمن "الشخصية العربية" نحو "صـدام الثقافة )، فأطروحته 1980( " والحداثة الشهيرة حـول "نشأة المدينة )، ثم 1986( " العربية الإسلامية الكتاب الحدث الذي هز العالمين الـعـربي والإســ مــي "الفتنة: جدلية الـديـن والسياسة في )، متبوعا 1989( " الإسلام المبكر بكتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" )، وصولا إلى ثلاثيته في 2000( السيرة النبوية ("الوحي والقرآن والنبوة"، و"تاريخية الدعوة المحمدية في مكة"، و"مسيرة محمد في المـديـنـة وانتصار الإسلام". لا تزال أطروحة جعيط حول نشأة "المدينة العربية" محط نقاش بـ أهــل الاختصاص، بتوليد الراحل أسئلة جديدة، بـعـيـدا عــن حـــدود "المـديـنـة الشرقية" التي قال فيها وعنها الأجانب الشيء الكثير، خاصة بعد اجتراح المؤرخ لأفق بحثي جديد، فالمدينة لـدى الرجل لـيـسـتصراعــــا بــ الـبـاديـة والتحضر، بـل هـي نظرية في الـعـمـراني تـعـدديـة الـتـحـ والإنـــســـاني. فتجربة "دولـــة المـديـنـة" كـانـت أســـاس هذه النظرية، وأسهمت في بلورة رؤيـتـه بشأن أسئلة الحضارة العربية. فالحضارات، بحسب جعيط، لا تتصارع بل تتداخل وتنتقل مراكزها في ازدهارها أو خفوتها. وعليه لا يشكل حضور الحضارة الغربية في المغرب والمشارق "صدمة" لديه. سرعـان ما كشف ابـن تونس تهافت ما كتبه المستشرقون المشتغلون عل هذه الحقبة من التاريخ الإسلامي، فدراساتهم جــاءت هزيلة، لـذا عد الرجل مــن المـؤسـسـ الأوائــــل في دراسات هذه الفترة، حيث قطع مع مناهج هــؤلاء، وفتح أفقا معرفيا مغايرا، استطاع به الراحل الخروج من الفتنة بالدولة. أدى الاشتغال التفكيكي عل "الإسلام المبكر"، خصوصا في كتاب "الفتنة"، إلى الاشتباك مع الإشكاليات الكبرى، الذي يوصلنا إلى الواقع المعاصر، ومـا يشوبه من تأخر حضاري وانتشار العنف، بنوعيه الفكري والمادي. وكان ذلك بمنزلة إعلان عن نهاية الاسـتـ اق، وعـودة البحث في التاريخ الإسلامي إلى الشرقيين. وعلق الـراحـل عل ذلك بقوله "يبدو أن هناك من انزعج من أن يدرس عربي مسلم الدين الإسلامي بأدوات علمية، وأن يعود إلى أسس الحضارة الإسلامية ويقدم فيها مقولاته، كما أنني انتقدت البعض منهم". يذكر أن الكتاب التأسيسي للمؤرخ التونسي تزامن مع كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" لـعـبـدالـلـه الـــعـــروي المـــؤرخ المـغـربي، مع اختلاف بين في الطرحين، فالعروي يتبنى نقدا جذريا لتجارب النهوض العربي الحديث، من منظور ماركسي تاريخاني. بينما ينحو جعيط منحى قراءة الحركات الإصلاحية العربية والفكر القومي، من منطلق متعاطف مع نغمة نقدية رصينة. نقيض أطــروحــة الـعـروي، لم تلق كتابات الراحل الصدى الــذي تستحقه، ســواء مـع أو ضد، وكأنما "صدر قرار بالتآمر ضده بالصمت - بتعبير محمد الـحـداد - هــذا الصمت الـذي تبدو نتائجه أشد وأبقى في قتل التفكير". وهذا عائد في الأساس إلى اختيار الرجل التموقع في صف التيار النقدي في الفكر العربي، إذ لم يسع إلى فرض لـون أيديولوجي عل التاريخ، إنما انطلق من مكتسبات العلوم الإنسانية واستعملها استعمالا قائما عل الندية والاجتهاد، في محاولة لدفع الثقافة السائدة إلى المساءلة. وكــان لموقفه السياسي من الأنظمة المتعاقبة عل تونس، بورقية، ثم بن علي، نصيب فيما لحقه من حصار، فدفع ثمن مواقفه الجريئة برفض التمديد له للتدريس في الجامعة، بعد ، فانزوى في 60 بلوغه سن الــ محراب البحث مجسدا بشكل عملي مقولة تنبئية، وردت في كتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" حين قال "أشعر أنني مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح (...) لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية، هذه الدولة تقمعني، وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي، المزيف والجاهل". بقي الـراحـل بعيدا عن الأضواء حين قامت الثورة التونسية، وظـل محافظا عل مسافة أمان مما يسمى "الربيع العربي"، وما يجري في المشهد التونسي. حتى عند اختيار اسمه لرئاسة بيت الحكمة "المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم" -) تردد كثيرا، 2015 2012( مخافة إلهاء المنصب له عن محراب المعرفة، وطقوس التأليف والـكـتـابـة. وسبق لـه أن تـرفـع عـن المناصب السياسية، فقد رفض منصبا وزاريا؛ جاء نتيجة نقاش عميق مع الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة في الستينيات، مفضلا الوفاء للبحث والتفكير بدلا عن المسؤولية والسياسة. كان جعيط طيلة مسار حياته من الأوفـيـاء للظل، والابتعاد عـن الفضاء الـعـام المسكون بالفوضى واللامعني، فقناعة الراحل المطلقة عبر عنها في أكثر من كتاب بقوله "أرى أننا نعيش أزمـة مخاض. العالم الإسلامي يركض وراء إعادة تأكيد موقعه في العالم المـعـاصر، وداخـل هذا التأكيد ثمة متناقضات فكرية وسياسية وثقافية، فهو في "أزمة تولد" لا نعرف ماذا سيحدث من ورائها". رفض منصبا وزاريا مفضلا فضاءات الدراسة والبحث هشام جعيط .. الوفاء لأقانيم الفكر والكتابة والهامش المدينة لدى جعيط ليست صراعا بين البادية والتحضر بل هي نظرية في تعددية التحضر العمراني والإنساني من الرباط محمد طيفوري هشام جعيط الثقافية

RkJQdWJsaXNoZXIy Mjc5MDY=